رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نقد فكرة الإمارة عند الجماعات المتطرفة (1/2)

جريدة الدستور

لقد قدم العرب المسلمون للعالم من خلال تتبعهم لسند احاديث رسول الله صلي الله عليه وسلم درسا عظيما في كيفية توثيق المادة العلمية وردها لمصدرها وهو ما يمكن ان نسمية نواة صغيرة لضرورة تضمين اي مادة علمية للمرجع المأخوذ منه وهو ما سار عليه العالم حتي يومنا هذا الا ان اعلاء شأن السند كان في مقابل المتن وهو ما يعني ببساطة ان النقل كان هو الاكثر أهمية وتقديما علي العقل فأهملوا عقد المقارنات بين احاديث متناقضه تمس واقع الانسان وحياته بشكل كبير لمجرد صحة اسنادها وقد بدت متناقضة ايضا الي حد كبير مع كثير من الاثار وواقع الحوداث اللاحقة عليها.

غير ان قاعدة النقل المقدم علي العقل قطعت شوطا كبيرا في الجمع بين الاحاديث ومحاولة ايجاد مخارج لها وان خالفت العقل ومنها حديث:(اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة )..اللافت ان راوي هذا الحديث هو ابو ذر الغفاري الذي امتنع عن بيعة ابو بكر في البداية وعارض عثمان فنفاه للشام وهما الرعيل الرشيد الذي تربي في كنف النبي !!! وليس هناك ما هو افضل في رد هذا الحديث من تناقض حال راويه مع متن الحديث المنقول عنه...اما حديث حذيفة بن اليمان عن النبي صلي الله عليه وسلم: (اسمع وأطع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك ) فيناقض حديث ابي بكر عن النبي صلي الله عليه وسلم: (ان الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا علي يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه ).

ان حديثي العبد الاسود وطاعة الامير الضارب لظهور رعيته والسالب لاموالهم وغيرها جاءت ملائمة للفترة السياسية التي اعقبت عصر النبي صلي الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين..وفترة الخلفاء الراشدين وطريقة توليهم تعتبر اكبر ناقض لهذين الحديثين سالفي الذكر فأختيار ابو بكر لقربه من النبي وسبق تصديقه له ومرافقته له في مراحل الدعوة والهجرة جعلت منه المرشح الاوفر حظا لقيادة المسلمين بعد وفاة النبي ومع ذلك جرت معارضة ضد توليته.
واجتمع المناصرون والمعارضون في سقيفة بني ساعدة ليستقر عليه الجميع كرئيس توافقي استقر عليه الجميع وكانت خطبة ابي بكر الاولي بعد توليته داعمة لحق الرعية في المعارضة وتقويم الحاكم:(اطيعوني ما اطعت الله فيكم فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم) وهل ضرب الظهر وسلب اموال الناس بالباطل ليس بمعصية !! ومما يروي عن عمر بن الخطاب انه قال في مجلس وحوله المهاجرين والانصار:(أرأيتم لو ترخصت في بعض الامر ما كنتم فاعلين ؟فسكتوا فعاد مرتين أو ثلاثا قال بشير بن سعد:لو فعلت قومناك تقويم القدح. قال عمر:أنتم إذن أنتم وفي رواية اخري:الحمد لله الذي جعلني في قوم إذا ملت عدلوني ).

اذن القولان يخرجان من مشكاة واحدة بما لايدع مجالا للشك ان اختيار الحكام يكون بشروط محكمة ومرتبط بطاعة الله والعدل بين الرعية والحق في المعارضة وهو الميثاق الذي قرره الخليفتين الراشدين في خطبتيهما ولو قارنا الخطبتين بقول الرجل لمعاوية:(والله لتستقيمن بنا يا معاوية أو لنقومنك فرد معاوية: كيف تقومني ؟ قال الرجل: بالخشب فقال معاوية: إذن نستقم) لوجدنا وضوحا في التحول من شخصية الحاكم المعلم المبادر لحقوق رعيته الذي يلقن رعيته درسا رشيدا في معارضته ومحاسبته الي شخصية الحاكم الذي سأل عن وسيلة التقويم بدلا من أن يسأل الرجل عن ما ينكره علي حكمه!!!..

اذن هذا التغير في تفكير الحاكم والظروف السياسية التي سادت الحكم الاموي وطريقة انتقال الحكم بالتوارث قد تطلبت هذه النوعية من الاحاديث التي ترسم الطريق للاستبداد والظلم وتؤمن له البقاء...اتباع طريقة التوارث في الحكم كانت تحتاج مسوغا شرعيا وكان افضل وسيلة هو استخدام هذه الاحاديث فقد كانت الحاجة ماسة لها نظرا لمعارضة الصحابة لهذا الشكل من توارث الحكم..فالحسن سبط النبي كان شرط موافقته علي التنازل عن الحكم لصالح معاوية بن ابي سفيان هو أن يكون الامر من بعد معاوية بيد المسلمين يختارون ما يشاؤون وهو الشرط الذي ضرب به معاوية عرض الحائط مع استخلافه لابنه يزيد.

ولو كان هذا الشرط احاديا واجتهادا من الحسن وليس من صميم الاسلام لما رفض عبد الرحمن بن ابي بكر ايضا استخلاف ابن معاوية وقطع خطبة معاوية قائلا:والله لتردن هذا الامر شوري بين المسلمين أو لنعديها عليك جذعة ولما خرج الحسين السبط الثاني للنبي ثائرا علي حكم يزيد وبالطبع يزيد في كل الاحوال افضل من تمليك عبد لامور الرعية!!!! ثم اعقب ذلك خروج عبد الله بن الزبير علي ثلاثة حكام متعاقبين: يزيد ومن بعده مروان بن الحكم وامتد حتي حكم عبد الملك بن مروان والحقيقة ان استمرار اسرة النبي صلي الله عليه وسلم علي هذا النحو في الثورة علي التوارث بين الامويين يؤكد ان حيودا قد حدث في فلسفة الاسلام في اختيار حكام المسلمين.

تعالوا لنستطلع ابعاد مجموعة من الصور الرائعة التي ترسم الشكل الحقيقي للحكم في الاسلام والتي اعقبت اغتيال الخليفة عمر بن الخطاب والذي شهدت حياته استبعاد عدد من الصحابة عن سلك الولاية منهم ابو هريرة الذي عزله عمر عن ولاية البحرين وكان يحاسب الوالي قبل وبعد الولاية فلعل عمر لم يطلع علي هذا الحديث الذي يطلق يد الحاكم في اموال الرعية !!!!!..لقد كان عمر سباقا في وضع اطارا لاول انتخابات ديموقراطية في التاريخ حيث وضع الخلافة في ستة من اصحاب النبي مات عنهم النبي وهو راض فكان هذا معيارا حياديا في اختيار السته.

ومع انسحاب ثلاثة من السباق الانتخابي انحصرت المعركة الانتخابية بين اثنين من الصحابة لتدور اول مناظرة رئاسية بين متنافسين انتخابيين في التاريخ ويديرها الصحابي المخضرم عبد الرحمن بن عوف ويشاهدها الناس ولم يتوقف الامر عند هذا الحد بل جري تصويتا للناخبين عبر استطلاع رأي كل بيت من بيوت المهاجرين والانصار اجراه الصحابي عبد الرحمن بن عوف ليحسم الامر للخليفة عثمان بن عفان ويحترم المتنافس الاخر علي بن ابي طالب لنتيجة الانتخابات.

هل هناك اروع من هذه الصور التي تضاهي اكبر الممالك والجمهوريات الديموقراطية في العالم..هل يعقل ان نفرغ هذه الروعة من مضمونها ونمضي في اثر العبد الاسود والخضوع للامير ولو ضرب ظهرك واخذ مالك !!!.. وللحديث بقية

*صيدلي وماجستير في الكيمياء الحيوية
كاتب وباحث مصري