رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تفكيك العقل الأصولي: النزعات الجهادية في الديانات الثلاث.. قراءة للحالة الأصولية

جريدة الدستور

قليلة هي الدراسات التي تسعي لتفكيك العقل الأصولي والبحث عن أصل الصراعات بين الأديان الثلاثة الإبراهمية (اليهودية والمسيحيية والإسلام) وكيف تبدأ الأصوليات من ادعاء الاستئثار، ثمّ تتنوّع وتتقاطع وتتناحربعد ذلك، لتتكامل على نحو أو آخر في نهاية المطاف، وهو ما نستطيع أن نطلق عليه بداية "خط الانحراف طويل المدى".

ظهر حديثا في الأسواق كتاب للباحث والصحفي المصري صلاح سالم "تفكيك العقل الأصولي: النزعات الجهادية في الديانات الثلاث الإبراهيمية"، الذي صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.

وهو إسهام هام وكبير في البحث في العلاقة بين المقدس والمدنس، وبين الافكار العقلية والافكار الإيديولوجية وعلاقتها بالدين والافكار المقتبسة من الحضارة الغربية خلال القرون الأولى إلى العصر الحديث.

فما زالت التأويلات الأصولية للديانات السماوية الثلاث هي التي تحتاج إلي تحليل ورصد وتفكيك، كما يستهدف هذا الكتاب الجديد، ليقترح تركيبًا استدلاليًا حول ملامح الأصوليات الثلاث (اليهودية والمسيحية والإسلام) في سياق حركة التاريخ الكلية.

تنتمي الدراسة التي كتبها الكاتب الصحفي في الأهرام، صلاح سالم، لعلم الاجتماع السياسي الديني، والتي تحتاج المكتبة العربية مزيدا من الدراسات حول معانيها ومدلولاتها، وتتركز في إشكالية محددة هي العلاقة بين العنف والتطرف- بأبعاده السياسية والاجتماعية -- وبين تطور فهم النص الديني في الأديان الابراهيمية الثلاثة (المسيحية والاسلام واليهودية) دون إغفال الإطلال بين الحين والآخر على أدبيات الأديان الأخرى، لا سيما الموجودة في آسيا مثل (الهندوسية والبوذية والكنفوشية).

قسّم الكاتب دراسته لثلاثة أبواب وتسعة فصول و21 مبحثا، بجانب المقدمة والخاتمة، ويقع الكتاب في 479 صفحة من القطع الكبير.

تناول في الباب الأول "الحكم الفردوسي: حول المقدس والمدنس"، وبدأ بعرض العلاقة بين رجل الدين والحاكم وتوظيف كل منهما للآخر، وتناول في الفصل الأول "النموذج التأسيسي: صراع السياسة مع القداسة اليهودية".

المقدس والمدنس 

وفي الفصل الثاني تناول "النموذج المعياري: صراع السلطة الزمنية مع الكنيسة المسيحية"، النموذج المسيحي، وناقش تاريخ انفصال الدولة (السياسة) عن الروحي (الدين) كامتداد لفكرة الثنائية (الروح والجسد) ومنها ولدت "ما لقيصر لقيصر وما لله لله". 

ويستعرض الكاتب مواقف الفلاسفة الدينيين من هذه الثنائية، مثل أمبروز وأوغسطين والبابا أنوسنت الثالث، لينتهي للفلاسفة غير الدينيين ممثلين في جان بودان. 

كما ناقش نظرية السيادة (خضوع الكنيسة لسلطة الدولة)، معتبرا ذلك امتدادا لآثار الاصلاح الديني وكيف ساهمت البروتستانتية في تعميق هذا التحول الذي شكل مقدمة لزرع بذور الدولة القومية التي أصبحت نظرية "العقد الاجتماعي" هى أساسها وقلب وجودها الحالي. 

وفي الفصل الثالث، انتقل الكاتب إلى النموذج الاسلامي ليستعرض لنا مواقف تيارين، هما التيار السني ممثلا في "الإمام الغزالي والإمام الماوردي"، والتيار الشيعي ممثلا في "الإمام محمد الباقر وجعفر الصادق"، ثم ناقش نظرية "الحاكمية" السنية، ونظرية "ولاية الفقيه" الشيعية، وربطهما بموضوع الإمامة والخلافة والدولة الإسلامية، ليصل لنتيجة محددة هي أن الأمة في النظريتين السنية والشيعية غائبة عن اختيار الحاكم، وكان دور رجال الدين في معظم الأحوال "وسطاء" بين السلطة والرعية، ومن هنا حدث خط الانحراف طويل المدى.

ثم جاء الباب الثاني ليتناول الهوية الأقنومية وجدل الأنا والآخر، فيستعرض الكاتب جملة من المقارنات تخصّ الأنا اليهودية (جدل الخوف والكراهية)، والأنا المسيحية (جدل الإنسان والإمبريالية)، والأنا الإسلامية (جدل الخصوصية والعالمية).

مصطلحات يجب أن تفكك 

وطرح جملة من المصطلحات التي يجب أن تناقش وتفكك بشكل جدي في الكتابات الحالية والندوات الفكرية، مثل "الألوهية القبلية"، و"النزعة التنويرية"، و"الروح الصليبية"، و"المركزية الثقافية الكولونيالية"، و"الوحي الإسلامي كدين عالمي"، و"الهوية المعاصرة في مرآة الحداثة الغربية"، وثنائيات مصطلحية مثل "التيار السلفي الغرب الشيطاني"، "التيار العلموي الغرب الملائكي"، "التيار التوفيقي الغرب الإنساني".

ويذهب الباب الثالث إلى النزعة الجهادية، من زاوية جدل الحداثة والأصولية، فيبحث في أصولية يهودية تساند الحركة الصهيونية، بالإضافة إلى صهيونية علمانية تجابه اليهودية «الحريدية»، وصهيونية دينية «تحاصر» ما بعد الصهيونية، وأصولية مسيحية «تناوش» الحداثة الغربية (الجذر اليهودي للاعتقاد البيوريتاني، والاستثنائية الأمريكية من العلمانية الغربية)، وأصولية إسلامية «تفتك» بالمدنية العربية (الفتوحات الإسلامية كحركة حضارية، مقابل السلفية الجهادية كحركة عدمية).

أبواب كتاب سالم الثلاثة تستفز العقل البحثي، وتقترح قراءة سريعة موجزة، على حد تعبير الكاتب صلاح الحديدي في قراءته للكتاب: "فالخبرة التاريخية للعلاقة بين المقدس الديني والحكم الدنيوي في الديانات الثلاثة غائبة". 

وهو ما يصل إليه الباحث سالم إلى نتيجة قطعية في عقلية التطرف والتشدد الأصولية، وهي ضرورة الانفصال الكامل عن تيار الحضارة الإنسانية حفاظا على نقاء الهوية (الإسلامية) عند البعض، الأمر الذى يخلق انشغالا عبثيا بهذه القضية بديلا عن الانفتاح على العالم، كما يغذى النزعة العدوانية إزاء الغير بديلا عن التعاطى الإيجابي معه، والرغبة فى التعلم منه. 

بل يصل الأمر أحيانا- والكلام هنا لسالم في مقال له بعنوان " تفكيك العقل الأصولى.. النزعة اللا تاريخية "- إلى تحويل الفهم الخاص الفرعى الفقهى المذهبى للدين إلى (إطار ثقافى) مغلق على نفسه داخل الحضارة نفسها، فلا يمتنع التفاعل مع الآخر الغربى حرصا على نقاء الدين، بل أيضا مع مختلف التيارات الفكرية التى تزخر بها مجتمعاتنا العربية حرصا على نقاء التدين، حيث يصبح الليبراليون غريبى الأطوار، والعلمانيون مجرد زنادقة وربما ملحدين، أما اليساريون، خصوصا الشيوعيين، فملاحدة ماديون على وجه اليقين، ناهيك طبعا عن الشيعة الذين هم فى الأقل منافقون وفى الأكثر خارجون على الملة فى نظر الأرثوذكسية السنية، المؤسسة قطعا عبر بعض التأويلات المنحرفة للسلفية الجهادية.

أحيانا يشعر القارئ لـ"سالم" بأنه بعيد عن رؤية التاريخ للحضارة العربية والإسلامية، وأحيانا أنه يعبّر عن نفس المدرسة العلمانية التي ترى في الدين والحضارة الإسلامية أصل الصراع ومكمن التطرف، وأحيانا يرى القارئ لمثل هذه النصوص حاجة لاستفزاز العقل العربي لمزيد من التحديث وقبول الآخر، وهذا هو المطلوب في هذا التوقت التاريخي الحرج الذي تمر به الحالة العربية والإسلامية.