رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مكبلات تجديد الخطاب الدينى المعاصرة (2)

جريدة الدستور

بعد أن انتهينا فى الجزء الأول من المقال – الدراسة – من الحديث عن واحدة من مكبلات تجديد الخطاب والذي يمكن أن نلخصه بأن الإسلام جرى نزوله وتفاعله فى حيز زماني ومكاني واجتماعي وان تغيب هذه الأبعاد من الدراسة تجعل من الإسلام حالة سلفية غير قابلة للتجديد أو النظر أو إعادة التأويل والقراءة...

ثانيا - القراءة التاريخيةُ ومأزقُ العدميةِ الروحية

العثرةُ الثانية، التى وقع فيه الخطاب الديني الإسلامي المعاصر هى نقيض السابق كما أسلفنا. إنّها الإفراط في الاعتقاد بالتاريخية إلى درجة اعتبار كل التراث من الماضي الذي ينبغي إعدامُه ونسيانُه دونما تمييز بين المتعالي المقدس والتاريخي البشرى فيها؛ إذ لا شيء مقدس في التاريخ حسب هذا المنظور. إنّها مقاربة تاريخية وضعية تعتبر كل النصوص الدينية، بما فيها النصوصَ الدينية التأسيسية العليا (السنة)، منتوجًا تاريخيًا ثقافيًا تنتهي صلاحيتُه بانتهاء شروطِه التاريخية، وأن كلَّ هذا الانشدادِ إلى ماضٍ مُتَوهَّمٍ يحول دون الانخراط الفعال والمنتِج في الحداثة بما هي قَدَرٌ تاريخيّ عالمي.

تقع المقاربة التاريخية الوضعية في المأزق ذاته الذي تعاني منه المقاربة الحرفية، فمثلما تقع هذه الأخيرةُ في شَرَك اللاتاريخية وتغتال العقلَ بذريعة التمسك بظاهر النقلِ، تقع المقاربةِ التاريخيةُ الوضعية في العدم الروحي فتغتال الإيمانَ بذريعة تحرير العقل؛ ذلك أنّها تتنكر لمستوى أنطولوجي ثابت من أبعاد الإنسان التكوينية، ويتصل الأمر بالبعد الإيماني الذي يُنتجُ ويغذي معنى أن يكونَ الإنسان موجودًا، هذا البعدُ الذي يشكل رافدًا لطاقةِ الإنسان المعنوية يقوِّيهِ على التعامل مع ضعفه ومع المجهول في آن واحد.
فبعد أن ظنت الحداثةُ الوضعية أنّها قادرةٌ على إعدام البعد الديني بنسيانه والتركيز على البُعدين المادي والتاريخي الملموس والمحسوس في حياة الإنسان، خابَ ظنها، وبدا أنّهُ مجرد "وهمٍ" تَبدَّدَ بفعل ما عرفه النصفُ الثاني من القرن الماضي وبداية القرن الحالي من عودة قوية لـ "الدينيّ"، على اختلاف في مضمونه بين عودة "سؤال المعنى" عَقِبَ الجفاف الروحي الذي وقعت فيه الحداثة في الغرب، ولا سيما عند تفريطها في البعد الأخلاقي مقابل تطويرها للمستويات العلمية والتقنية والتكنولوجية والاقتصادية من حياة الإنسان؛ وبين مضمونِ عودة "الديني" في الضفَّة الإسلامية، وما يعنيه من عودة لطقوسية التدين واحتلال الدين لمواقع متقدمة في الحياة السياسية والفضاء العام بوجه عام، وهي عودة يستأسد فيها "التسييس" و"الطقوسية" على "الروحنة" و"العقلنة"؛ أي يستأسدُ فيها ما صار يُسمى بـ "الإسلام السياسي"، والذي يُسَخِّر كل الموروثِ الديني في قراءة سياسية للواقع ورهاناته، وذلكَ في نسيان، يكاد يكون تاما، للعنفوان الروحي الذي يميز الدين في وظيفته الإيمانية المتعالية.

هذا ما أوقع التدينَ "العائدَ" بيننا في "الطقوسية" تحولت معه مختلفُ مظاهر التنسك والتعبد من دلالاتها الروحية الكونية المتعالية المقدسة إلى أشكال ورسوم تؤشر على تقليدية ممجوجة أو على انتماءٍ إلى مشروع سياسي مُعين يرفع عنوان الدين مرجعيةً وأفقًا، الأمر الذي جعلَ عودة "الديني" في الضفة "الإسلامية" مقرونةً بعُقْمٍ في إنتاج المعنى، سواء في مستوى الأفق الروحي المتعالي أو في مستوى معقولية الفهم التاريخي.

إنّ ما نسجله، هنا، هو أنّ إهمالَ الحداثة الوضعية للبعدِ الديني، مع كونه حاجةً ضروريةً ضمن الحاجات الأنثروبولوجية للإنسان، جعلت هذه البعد ينفجرُ من جديد في وجهها بأشكالٍ متباينة في الضفتين الغربية والإسلامية؛ لأنّ هذا البعد لا بديلَ عنه، ولا يمكن لغيره أن يضطلع بوظائفه المعنوية والروحية والنفسية. من هنا تهافتُ كل دعوى إلى إقصاء البعد الديني وتهميشه في أي مسار تحديثي.

بخلاف القراءةِ التاريخيّة الوضعية للدين، ثمةٌ مسار آخر تلجأ إليه كثير من المقاربات التاريخية الحداثية، وهو رفع شعار "تحرير الدين" بدل "التحرر من الدين"، حيثُ تعلنُ أنّها لا تتنكرُ للإيمان، وإنّما تسعى إلى مقاربتهِ مقاربة تاريخية تفكيكية لا وضعية، وذلك لتحريره من أشكاله التاريخية الموروثة. وعليه، فهي لا تهدف إقصاءَ البعد الديني والإيماني من التقصي والبحث والدراسة، لكنها تعمدُ إلى تفكيك المرجعيات المعتبَرَة دينيةً لإثبات تاريخيتها، والاقترابِ التاريخي من كثير من "المتعاليات" لإثبات بشريتِها.

وعكس الإقصاء والإلغاء اللذين تقعُ فيهما المقاربة الوضعيةُ، تهدف هذه المقاربة تفكيكَ التراث الديني من الداخل لـ"تحرير" الناس من كثير مما تعتبره أوهاما تلبس لباس "التقديس". وهنا تلتبسُ الأمور بين "تحرير الإيمان" من الخرافي والأسطوري والنسبي والبشري المتلبس والملتبس بالمطلق، وبين إنكارِ كل مُطلق ونسفِ كل غيبٍ ونبذ كل متعال وإبادة كل منزع إيماني. وهذا الالتباس بدل أن يُحَرِّرَ إيمان الناس، فإنّه يؤدي إلى تشكيكهم في كل "إيمان"، مما يَفْجَعُ وعيَهُم الإيماني ويهدده بالعدم، فيبذُر فيهم تلك العودةَ الانفجارية للتدين التقليدى بما هو ملجأ نفسي من هَلَعِ العدم.

هذا ما يجعلُ من المقاربة التاريخية التفكيكية عامِلًا آخر يُسْهِمُ في إنعاشِ المقاربة الدينية المتشدِّدة، في الوقت الذي لا تفتر فيه عن إعلان مطمحها في تفكيكِ هذا التشدد وإبطاله.

ثالثا:- القراءة العقلانية الإيمانية وأفق التحرير الفكرى المزدوج

بعيدًا عن القراءة الحرفية المتشددة وعن القراءة التاريخية الإقصائية؛ وضعيةً كانت أم تفكيكية، ثمة طريقٌ ثالثٌ من شأنهِ أن يُحَررَّنا بشكل مزدوج من آفات القراءتين الحرفية والتاريخية، طريق مازالَ في مسيس الحاجة إلى كبير تعميق وبحث، ويتعلق الأمر بما يمكن أن نطلقَ عليه "قراءةً عقلانية إيمانية"؛ وقوامُها العمل على إنتاج خطاب ديني يتأسس على مقاربةٍ تأويليةٍ ترفضُ الحرفيةَ والتسَيُّبَ في الفهم على حدٍّ سواء، مثلما ترفضُ التهجين والتلفيق اللذين تقع ضحيتهما كثير من المحاولات التوفيقية. وتجعل هذه القراءةُ المنشودةُ نصب عينيها إنتاج خطاب ديني يجمعُ بين "الروحنة" و"العقلنة"؛ أي بين التغذية المتجددةِ لِلقلب والعقل بالمعنى من غير تنافر أو تصادم، وهي مقاربة تقتضي ضرورة الانفتاح على العِلم في مختلف تجلياته المعرفية الإسلامية والغربية، مع ضرورة تطوير أدوات النقد الإبستمولوجي لهذه المعارف وتنخيلها العلمي قبل استثمارها في البحث وإنتاج الفهم، سواء تعلق الأمر بفهم النصوص أم بفهم الواقع.

إنّ من شأن مقاربةٍ بهذه الملامحِ أن تستوعبَ التعالي المقدس والتاريخ البشرى في مقاربةِ الوحي وفهمه؛ ذلكَ أن عظمةَ الوحيِ كامنةٌ في قدرة الكلمة الإلهيةِ على أن تتجاوبَ مع كل عصرٍ وفقَ شروطِهِ التاريخية، وأن تُخَاطِبَ أهلَ كلِّ زمانٍ على قدرِ ما بلغتهُ عقولُهم ومعارفُهم من التطور، وذلك دون أي تفريطٍ في المُوَجِّهاتِ العَقدية والأخلاقية والتعبدية التي تشكلُ دائرة انتماء كلِّ المسلمين مهما كان زمانُهم أو مكانهم أو أسئلتُهم. ذاك، في نظرنا، هو معنى "التعالي" الذي يميزُ الوحي، والذي يعني، فيما يعنيهِ، أنّ القرآنَ يظل دائمَ التنزُّل في كلِّ زمانٍ ومكان، وهو ما نفهمُه من قول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم عن القرآن الكريم أنّه "لا يخلُقُ عن كثرةِ رَدِّ، ولا تنقضِي عَجَائِبهُ" (من حديث طويل أخرجه الدارمي)؛ ذلك أنّ الرتابةَ لا تلحقهُ مهما كثُرَ ترديدهُ، وقراءتُه مهما تكررتْ تقطُنُها الغرابةُ، إذ كلُّ قراءةٍ تَدَبُّريةٍ بالضرورةِ متجددةٌ، وحاملةٌ مَعهَا أفقًا جديدًا للفهمِ لا محالةَ مُبهِرٌ القارئَ بأصدافِ معنى لا قِبَلَ لهُ بها.

يكفي أن يتأهَّل القارئُ للإنصات إلى وحيٍ ما يفتأ يتنزلُ على متدبريهِ، وأن يستعدَّ لذلك بتجديدِ أدوات الغوصِ عن طريقِ تطهيرِ قلبِهِ لإدراك تعالي الوحي واستبطان معناه الروحي المتجدد، وكذا تأهيلِ عقلِه لتنزيل ذاك التعالي ضمن شروطه فهمه التاريخي، وإلا ظلَ هذا القارئُ أسيرَ ما اقتنصهُ الأجدادُ من معانٍ روحية وتاريخية مُنكِرًا ما سواها، فيما اللانهايةُ هي واحدةٌ من أسرار بحر الكلمة الإلهية المتعالية المقدسة يقول تعالى: ( قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا)الكهف، الآية 9.

شرطٌ، إذن، أن يتأهلَ القارئُ لهذه المقاربةِ حتى يرى في آيات اللهِ ما لا يُرى ويسمعَ غيرَ ما ألِف أن يُسمع. ويقتضي هذا الشرطُ أن يعتني المؤمنُ بقلبه وعقله على السواء، وأن يُجاهِد من أجل بلوغِ جدليةٍ مبدعة بين روحه وعقله، تكفلُ له تلقيا متجددًا للوحي من شأنه أن يُسفر عن فهم تاريخي متجدد يغذي روحَه بالإيمان، ولا يتناقضُ مع مقتضياتِ المعقولية المنتجةِ والفعالةِ التي تستلزمها حياتُه وعصره. على أنّ الجمع بين العقل والروح، بين التاريخِ والتعالي، ومثلما يستدعي النظر في شروط التاريخِ، يستدعي أيضًا الانفتاحَ على التجربة الدينية بما هي تجربة إيمانية لها "منطقها" الروحي الخاص في توليد طاقة المعنى وإضفاء بعد إيماني على حياة الفرد والجماعة بما يصل الإنسان بالمطلقِ ويخدم إنسانيتهُ ويحول دون تشييئه أو تبهيمه.

ومثل هذا الأفق لابد أن يتضافر في صياغتهِ "العقلانيون" و"الروحانيون" على السواء، وأن تتم مراجعة كثير من الأحكام التي يقع ضحيتها "العقلانيون" في تعاملهم مع الدين حين يقاربونه بوصفه "ظاهرة" اجتماعية وثقافية فقط، فيتفلَّتُ منهم ذاك البعدُ الغيبي واللامادي والروحي والمعنوي المشكِّل لبؤرة الدين وعنوان هويته. في حين ينغمِسُ "الروحانيون" في هذه البؤرة فيفقدون البوصلةَ التاريخية والعقلانيةَ التي من شأنها أن تنبِّههم إلى بشريةِ كثير من مظاهر تدينهم ومُوَجِّهاتهِ ونسبيتها.

على أنّ تضافر آليتي "الروحنة" و"العقلنة" بتجديد أدواتهما وخلق حوار مبدع بينهما من شأنه أن ينتج لنا تيولوجيا عقلانية معاصرة تحررنا من اللاتاريخية فترصِّع الإيمان ببناء معرفي عقلاني يجعلهُ معاصرا في مستويات الفهم والإدراك ومنسجما مع سياقه التاريخي ونظامه المعرفي الحداثي، مثلما تحررنا من كل عدمية روحية فتَحْفظ تلك التيولوجيا في الوقت ذاته للإيمانِ مضمونَه الروحي ووظيفتَه في تغذية القلب وإنتاج المعنى، وهو ما من شأنه أن يقوي الإنسان على أن يحيا بعدَه المتعالي الثابت في انسجام وفعالية وإبداعية مع بعده التاريخي والبشري المتحول.

أعرفُ أنّ مثل هذا الأفق التحريري الذي ترومه "القراءة العقلانية الإيمانية" يشكلُ "يوتوبيا" جَمٍّ من المؤمنين المُعاصرين، وهي يوتوبيا جميلة وغير مستحيلة، إنّما تقتضي جهدًا مازلنا بعيدين عن إنجازِه، بل لم نتأهل بعد علميا ودينيا وتاريخيا ونفسيا للقيام به. ويلزمُ للسيرِ في هذا الأفق إنجازُ تحرير مزدوج للخطاب الديني الإسلامي المعاصر، تحريرُه من القراءة الحرفيةِ المتشددة وكذا من القراءة الحداثية الإقصائيةِ؛ أي يلزمُ تحريره من "الأدلجة"، أكانت تتدثر بالإسلام أم بالحداثة، وإغراء العلماء المسلمين والعالمات بالانخراط النضالي والنسكي في هذا الأفق العلمي والروحي في آن، وهو الإغراء الذي لا مدخل له غير الإيمان بأنّ مثل هذا الأفق هو المسارُ الوحيد من أجل إنقاذ العقل والإيمان معا في الخطاب الإسلاميّ، مثلما هو الممكنُ الوحيدُ لتحقيقِ "عالمية" الرحمة المحمدية و"خلود" الإسلام بما يضمنُ للإيمان التجدد الدائم ضمن شروط تجدد العقل والتاريخ.

يمكن تلخيص الآلية والتوصيات التى يجب أن نأخذها فى الاعتبار:
أولا: حجم عملية التجديد غير متناهي أي له طابع الاستمرارية، لذلك لا يمكن القول ان هذا التجديد يمكن أن يتم بعملية واحدة أو نقلة نوعية واحدة تنتهي بها.

ويمكننا أن نرى نموذجين جغرافيين، ونظامل فيهما، فقد اضاف جيل القرن التاسع عشر فى مصر الكثير من مناحى التجديد فى الخطب الدينى، ويمكن أن نذكر على سبيل المثال رفاعة الطهطاوى، وعلى عبد الرازق، وحمد عبده، ومحمد أبو زهرة، وطه حسين، والعقاد... وعلى الجانب الأخر نجد أن العراق عرفت خلال هذه الفترة ايضا نجد من ابرز الاسماء السيد ابو الحسن الاصفهانى، والسيد البراجوردى، ومحمد باقر الصدر، ومحمد صادق الصدر، محمد اليعقوبى.

وكما كانت اسهامات كل تلك الأعلام واضحة فى هذا المدمار، نجد أن الأخير استطاع أن يشق طريقا بين التزام المنهج الكلاسيكى للحوزة العلمية وبين مناهج علمية واجتماعية فى التواصل والتجديد.
ثانيا: التجديد يعني أعادة النظر في مجمل النظام الإسلامي، وهو يعني فيما نفهم أنه لا يطال الفقه والخطاب الديني فقط بل ( إبستمولوجيا الإسلام ) أو النظام المعرفي للإسلام.

ثالثا: التجديد عملية جدلية مستمرة بين الواقع والفكر وبين الفكر والفكر، لا تقطع الحاضر عن الماضي لان الماضي أي التاريخ هو من يحدد معالم الشخصية العامة للامة.