رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قصة فتوى.. إنقاذ عبد الوهاب من التكفير بسبب أغنية «من غير ليه»

محمد عبدالوهاب
محمد عبدالوهاب

بمجرد ما اذيعت أغنية من غير لية كلمات مرسي جميل عزيز ألحان موسيقار الأجيال محمد عبد الواهاب في أواخر عام 1989م، قامت الدنيا ولم تقعد، لم تكن الثورة من المؤسسة الدينية هذه المرة، ولا من داعية من الدعاة الجدد على منبرمن منابر المساجد الأهلية ولا من داخل المؤسسة الأمنية.

كانت هذه المرة من أحد المواطنين الذي تقدم ببلاغ إلى النائب العام يتهم فيه محمد عبد الوهاب بترويج الإلحاد، لأن كلمات الأغنية تصرح بما يُعد كفرا فى الدين.

وقال المواطن في بلاغه الذي تقدم به إلي النائب العام بمساندة احد المحامين السلفيين إنه: " سأل أحد رجال الدين بشأن هذه الكلمات، وقد أفتاه بأنه من حقه أن ينهى عن المُنكر، وأن أضعف الايمان هو اللجوء إلى المحكمة".

نسبت الصحف في هذه الاثناء بحسب ما ذكره د غالي شكري فى سلسلة من المقالات بعنوان "العلمانية الملعونة" هذه الفتوى إلى الشيخ " عبد الله المشد"، رئيس لجنة الفتوى بالأزهر.. وقالت فى عريضة الدعوى: " إن بعض كلمات الأغنية تُمثل مخالفات صريحة للشرع الإسلامي، وتضمنت عبارات تدخل كاتبها ومرددها دائرة الشك وتحمل معنى الاستهانة بالقدر".


وبناء عليه رفع محامي الادعاء بـ "دعوى حسبة" أمام محكمة الأمور المستعجلة ضد محمد عبد الوهاب وآخرين بمقولة أن " واجبه كمسلم دفعه، لرفع هذه الدعوى ضد كل من يتعدى على الإسلام وطالب بمصادرة الأغنية ووقف إذاعتها ". 

ولكن سرعان ما نفي الشيخ عبد الله المشد امام المحكمة بمذكرة أنه أصدر أي فتوى بهذا الشأن، وتحدى في الصحف أن يثبت المدعي هذا الزعم من توقيع للشيخ على الفتوى مكتوبة أو من صوت مسجل له. 

وأضاف أن الحديث الشريف يقول: " روحوا القلوب ساعة بعد ساعة؛ فإن القلوب إذا كلت عميت، وإذا عميت لم تفقه شيئًا"، ولا يجوز أن يحكم أحد بكفر مسلم، إلا إذا ثبت كفره بدليل قطعي الثبوت واجماع، وليس بما يفيد الظن والاحتمال". 

وقال الشيخ المشد في مقال له بصحيفة الأهرام بتاريخ 14-12-1989: " ومن هنا نستطيع أن نقرر أن مؤلف أغنية " من غير ليه" أو مغنيها أو مرددها لا ينطبق عليه الحرمة أو الكفر، لأنه خلط المديح بالغزل لا حرمة فيه". 

ثم يتساءل رئيس لجنة الفتوى في نفس المقال، قائلًا: " ماذا في كلام الأغنية التي تقول: جايين الدنيا ما نعرف ليه ولا رايحين فين ولا عاوزين إيه، وإن استعمال الشك للوصول إلى الحقيقة هو مذهب يراه الإمام الغزالي صحيحًا.. إننا لم نجد من العلماء أحدًا، قد حكم بكفر من قال بمثل هذه الأغنية، ولكننا للأسف وجدنا ذلك من قوم قل علمهم بالإسلام ادعوا غرورًا أنهم المدافعون عن الإسلام والعارفون بأدلته وأحكامه وقواعده وأصوله". 

عرض الامر علي المحكمة بكافة الحيثيات وبعد جلسة استغرقت أربع ساعات في محكمة القاهرة للأمور المستعجلة حكمت المحكمة برفض الدعوى المقامة من المواطن المصري بمساندة سلفية.. وكان محامي الادعاء، قد طلب حضور عبد الوهاب بشخصه، ليعلن أمام المحكمة توبته وتبرؤه من الاغنية وعما اقترف بحق الإسلام في أداء هذه الأغنية. 

وقالت المحكمة في حيثيات الرفض وأن كلمات الأغنية لا تعني سخرية الإنسان من سر وجوده في الحياة أو اعتراضه على ذلك، وبل أنها تعني سخرية الإنسان من نفسه وضعفه وقلة حيلته؛ فهو حقًا لا يعرف سر وجوده ولا إلى أيان المصير.

كما لا ترى المحكمة تعارضًا بين كلمات الأغنية وبين قوله تعالى: " وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون"، وأن معنى الأغنية بوجه عام بعيد عن المساس بالناحية الدينية، وإنما هي أغنية عاطفية عبارة عن رسالة موجهة من حبيب إلى ما يحب، وأن عبد الوهاب ونشأته الدينية وحفظه للقرآن الكريم ينأى به عن التردد في دائرة الشك أو السخرية من القدر، ولكل ما تقدم فإن الدعوى تبدو، وقد فقدت أي سند لها من الواقع والشريعة ويتعين رفضها". 


دلائل واقعة أغنية من غير ليه علي الواقع المصري، فقد اسفرت على ما يلي: 
ـ أن هناك من يرى ضرورة فرض الوصاية على الفن من حيث المبدأ، وأيا كانت الكلمات والألحان والغناء؛ فالفن متهم حتى تثبت براءته. 

ـ يري فريق من الدعاة السلفيين أن " الشك" يستوجب المساءلة، سواء كان هذا الشك في الشعر الجاهلي منذ أكثر من ستين عامًا مثل "معركة طه حسين" أو في حياة الانسان ومصيره كما هو الحال في أغنية محمد عبد الوهاب من غير ليه بدون التروي ومعرفة المقاصد والأهداف والغايات. 

ـ اعتمدت براءة الأغنية والمغني على أن الكلمات، ليست مما يدخل في باب التحريم أو الكفر، وأن تدين عبد الوهاب يضعه فوق مستوى الشبهات، وليس هناك كلام عن مؤلف الأغنية نفسه؛ فلم يكن عبد الواهاب إلا مؤديًا وملحنًا. 

ـ كان من الواضح في هذه الواقعة أن هناك رغبة من الأزهر ورغبة من القضاء بتبرئة الأغنية والمغني.. فبالنسبة للأزهر هناك النفي لصدور فتوى في هذا الشأن‘ وقد استند القضاء على هذا النفي. 

ـ البعض يرمي مواقفه السياسية علي الفتوى والفاوى والمفتين دون التأكد من صدورها والتعامل معها بشكل مثبت واضح فالفتوى فى الاساس سؤال لما اشكل من موضوع يجيب عليه المفتي بشكل واضح وصريح. 

ـ من الواضح في هذه الواقعة أن شخصية الفنان محمد عبد الوهاب لها تأثير في وجدان المجتمع المصري وتلعب دورًا حاسمًا في انهاء المشكلة عند هذا الحد، لأن الاستشهاد بالغزالي أو بالسيرة الدينية لعبد الوهاب كان لا يكفي وحده فى الاقرار بحرية الفكر والتعبير وان هناك ابعادا فكرية وثقافية في الموضوع. 

في النهاية لعبت "الفتوى الدينية" و"الحسبة الدعوة" و" مفهوم الشك واليقين الديكارتي"، و" المحكمة الإدارية " دورا كبيرا فى هذه الواقعة مما يلقي بظلالها أو مازال يلقي بظلالها علي معظم الموضوعات المماثلة في المستقبل.