رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«معارك الأزهر والصحافة».. قصة «حديث إلى الله» وانتفاضة الشعراوي ضد الحكيم

جريدة الدستور

من حديث "مع الله" إلى حديث "مع نفسي "الحكيم يتراجع 
إدريس للشعراوي: "انت رسبوتين مسلم" 
والشعراوي للحكيم "أول مرة اسمع فيها أن الله كلم واحدًا من البشر من غير الأنبياء والرسل" 
خطباء الجمعة يكفرون ثالوث الثقافة المصري "الحكيم ـ إدريس ـ زكي محمود "والأهرام يتراجع ويقدم إعتذارا

هي إحدي المعارك الفكرية التي دارت في اوائل الثمانينيات من القرن الماضي بين ثالوث الثقافة المصرية (توفيق الحكيم ويوسف إدريس وزكي نجيب محمود) والشخ محمد متولي الشعراوي بسبب مقال "حديث مع الله". 

بدأت القصة عندما كان الأديب والمفكر توفيق الحكيم ينشر مقالته الاسبوعية بجريدة الاهرام كل يوم ثلاثاء تحدت عنوان "حديث الثلاثاء" وكانت تعبر عن حالة أدبية وفكرية كبيرة في الأوساط الثقافية لما لجريدة الأهرام من قبول واسع في الشارع المصري وايضا قبول في الأوساط الفكرية والأدبية. 

وفي احد أسابيع النشر وتحديدا يوم 1 مارس 1983 نشر الحكيم سلسلة من المقالات بعنوان “حديث مع وإلى الله” على مدى أربعة أسابيع متتالية وبمجرد وصولها إلي العدد الرابع من السلسلة أحدثت المقالات أحدثت دويا كبيرا في الأوساط الدينية والفكرية المصرية وخاصة مؤسسة الأزهر الشريف ومشايخها.

وتولي الهجوم علي الحكيم أيامها الشيخ محمد متولي الشعراوي في جريدة اللواء الإسلامي بتاريخ (17 مارس 1983) ومن أهم ما قاله حينها " هذه أول مرة اسمع فيها أن الله كلم واحدًا من البشر من غير الأنبياء والرسل.. وكان له الحق- ولكل منا الحق- في الحديث «إلى» الله، ولكن اعتراضي على أن حديث توفيق الحكيم «مع» الله وأن الله تحدث إليه، وفى دفاعه عن نفسه يقول إنه تخيل ذلك، فهل خيال البشر يدخل فيه كلام الله معهم مباشرة أو عن طريق ملك (مثل جبريل عليه السلام)؟ وما هي الكيفية التي تم بها هذا الحديث؟. وكل من ينقل عن الله حديثا لم يقله الله فله الويل والله يقول عن رسوله (ولو تقّول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين، فما منكم من أحد حاجزين) فهل أباح توفيق الحكيم لنفسه ما لم يكن مباحا لمحمد صلى الله عليه وسلم”؟

”واضاف في مقاله بجريدة اللواء الإسلامي وكانت تصدر أسبوعية " لقد شاء الله ألا يفارق هذا الكاتب الدنيا إلا بعد أن يكشف للناس ما يخفيه من أفكار وعقائد كان يهمس بها ولا يجرؤ على نشرها.. وشاء الله ألا تنتهى حياته إلا بعد أن يضيع كل خير عمله في الدنيا فيلقى الله بلا رصيد إيماني.”

لقد اعتبر الشيخ الشعراوي ان الحكيم ارتكب كبيرة من الكبائر بإعلانه الحديث مع الذات الإلهية وانه لا يعظم حرمات الله وانضم إلي المعركة بجانب الأديب توفيق الحكيم كل من د زكي نجيب محمود  ود  يوسف إدريس .

 الشعراوي رسبوتين المسلم

وصف الأديب يوسف إدريس بعدها الشعراوي بأنه رسبوتين وكان ذلك في سلسلة من المقالات بجريدة الأهرام، بعنوان «عفوًا يا مولانا» وصف فيها الشيخ الشعراوي بأنه: " يتمتع بكل خصال راسبوتين المسلم.. قدرة على إقناع الجماهير البسيطة.. وقدرة على التمثيل بالذراعين وتعبيرات الوجه وقدرة على جيب كبير مفتوح دائما للأموال.. وأنه يملك قدرات أي ممثل نصف موهوب”.

وايد د زكي نجيب محمود ما قالة د يوسف ادريس متهما الشيخ الشعراوي بانه كهنوت ديني ويقود مجموعة من رجال الدين للهجمة علي الثقافة والمثقفين معتبرا أنه زعيم كبير روحي مثل الخميني يقود مجاميع متطرفة ضد حرية الرآي و التعبير والصحافة .

تدخل بعض علماء الازهر الشريف بجانب الشيخ الشعراوي علي الفور وكتب الشيخ محمد أحمد المسير مقالا تحت عنوان “أدب الحديث عن الله” نشرته جريدة اللواء الإسلامي في 10 مارس 1983 يقول فيه: إن الطامة الكبرى هي في إقامة نفس هذا الحوار أساسًا فهو افتراء وكذب وخداع ولا يغني عن ذلك أن يقول الحكيم: “أقيم أنا الحوار تخيلا وتأليفا”.

وتساءل المسير في مقاله : "أين نحن اليوم مما يفتريه الحكيم في مثل قوله: ـ وفجأة حدث العجب حدث ما كاد يجعلني يغشى علي دهشة فقد سمعت ردًا من الله أو خيل إليّ ذلك وهل إذا درست الحساب بنجاح والتحقت بمدارس العلوم كنت ستراني؟ هذا ما سمعته وهذا يكفي ليجعلني أعتقد أن الله قد سمح أخيرًا أن يدخل معي في حديث ـ " إن هذا الشكل من الحديث جرأة على الله وإهدار للمقدسات واعتداء على شرف الكلمة وضياع لمعالم الحق وتدليس شنيع، يجب التوقف عنه وإيقافه حتى لا يسقط القلم من يدي الحكيم ويكون هذا آخر ما كتب" !!

إن حديث الثلاثاء الأول يحوي كثيرًا من القضايا الفارغة ولكن يا أيها الحكيم: قليلا من الرشد والحكمة وسق ما شئت من قضايا نناقشها معك ونستعرض أدلتها سويا بعيدا عن لله، فالحق أحق أن يتبع.

 انضم المستشار محمود عبد الحميد غراب رئيس محكمة الجيزة  حينها إلي المعركة فكتب في جريدة النور التابعة لحزب الأحرار  يقول : " لتوفيق الحكيم سابقة أخرى على صفحات مجلة أكتوبر عندما أجرى حوار مع ملك الموت بأسلوب ساخر معه حول الأجر الإضافي ومن يساعد ملك الموت وكان هذا الحديث في واقعه مقدمة لتجرؤ ذاك ـ التوفيق ـ بعد ذلك على سخريته من الله جل في علاه، فهو إذن سبق إصراره بمعاندة الله والنيل من الذات العلية المقدسة، مثله في ذلك كمثل إبليس اللعين الذي استكبر على الله ورد عليه بأسلوب المكابرة قائلا: “فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم" .


 الإخوان يدخلون المعركة

 دخل الإخوان إلي ساحة المعركة مستغلين حماسة الأزهر ضد المثقفين وموقفهم من الحكيم وإدريس وزكي نجيب محمود فكتب عمر التلمساني المرشد العام للإخوان المسلمين آنذاك بجريدة النور في 9 مارس 1983 مقالا تحت عنوان: “أهكذا تختم حياتك أيها الحكيم”؟

يقول فيه: "هل نسي هذا المتحدث مع الله أن العليم الخبير قد قال بالقول القطعي الثبوت القطعي الدلالة: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيًا أو من رواء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم}. فإذا كان هذا هو كلام الذات العليا التي يقول الأستاذ أنها ردت عليه فأيهما نصدق كلام الله وقرآنه أم كلام الكاتب الضليع الفيلسوف الحكيم؟!".

أما أنا فليس لي خيار؛ فالله عندي أولى بالتصديق والتسليم بكل ما يقول كائنا من كان أو انتحل لنفسه ما لا يمكن أن يقره عاقل أو حصيف، ولئن أباح الأستاذ الحكيم لنفسه أن يبني كلامه على سياحة في عالم الخيال فهل يبيح لنفسه الاستخفاف بعقول القراء ظنا منه أنهم ضاربون مثله في بيداء الخيال، يا ايها الحكيم إن جاز أن يكون الخيال أساس الحكايات والروايات والتي ندرات نفسك لها فلن يرضي مسلم لنفسه أن تكون وسيلته مع الله قائمة على الخيال.

وفي اشارة إلي اتهام  التلمساني للحكيم بانه يسير علي خطي الإلحاد قال : هل تبين لنا معني قولك إن الأديان نسبية تختص بها أرض دون أرض؟

واضاف التلمساني في مقالته  بجريدة النور إن الإسلام جاء لأهل هذه الأرض التي نعيش وتعيش عليها ولم يخاطب به الله إلا البشر الموجودين على سطح هذه الأرض، أي أن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم لم يخاطب بهذا الدين أبناء آدم الموجودين فوق الأرض التي عاش عليها أينشتين وكاستلر مثلا اللذين قدمتهما لنا؟ وكيف نعلم على وجه اليقين أن هناك أديانا غير ما نص عليه القرآن؟ أم أنك تريدنا على أن نسير معك في عالم الافتراضات؟ ثم ما الداعي إلى هذه الزعزعة الدينية التي جئت لنا بها على آخر الزمان؟


حوار الحكيم والشعراوي اون لاين

لم تهدأ نار المعركة  بين المؤسسة الدينية  المتمثلة في الأزهروكبار المثقفين والحكيم بمرور الوقت، وطالت أغلب الفعاليات  الثقافية والفكرية في مصر، وقام مجموعة من العلماء بدعوة الأديب توفيق الحكيم لمناقشة علمية في جريدة اللواء الإسلامي واستمرت الندوة أربع ساعات كاملة، واشترك فيها كل من الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، والدكتور الحسيني هاشم الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية آنذاك والدكتور موسى شاهين لاشين أستاذ التفسير والحديث بجامعة الأزهر والمناظر البارع وصاحب قدم السبق في أول حوار مع جماعة التكفير والهجرة في السجون المصرية ، بجانب الدكتور أحمد عمر هاشم أستاذ الحديث بجامعة الأزهر وقد وافق الشيخ محمد متولي الشعراوي على الرد على ما أثاره الحكيم في الندوة وفي مقالاته من آراء تمس العقيدة الإسلامية في شبة مناظرة فكرية وثقافية .

ومما قاله الشيخ محمد متولي الشعراوي علي كلام الحكيم : "الأستاذ توفيق الحكيم لم يقل لنا كيف كلمه الله.. هكذا مواجهة أم أرسل إليه ملكا أم ماذا حدث؟ وما هي الكيفية التي تم بها الحديث فإن كان الحديث من الله تخيلا أن الله يقول فكأن الأستاذ توفيق الحكيم قد قيد مرادات الله بمراداته، أي أنه قد قيد إرادة الله بإرادته هو؛ فما يريده عقل توفيق الحكيم يقوله الله سبحانه وتعالى في مقالاته وما لا يريده .

وتقييد إرادة الله بإرادة البشر هو خطأ ثان ارتكبه الأستاذ الحكيم، وأعتقد أنه خطأ جسيم لا بد أن يعتذر عنه ويستغفر الله؛ فما من بشرمهما بلغت عبقريته يستطيع أو يسمح له بتقييد إرادة الله بحيث يجعل الله سبحانه وتعالى خاضعًا لإرادة بشر، يقول ما يقوله هؤلاء البشر ولو تخيلا، ذلك اجتراء على الله جسيم وكل من يجترئ على الله سبحانه وتعالى بأن ينقل عنه عز وجل ما لم يقله موعود بالويل؛ فما بالك بمن قيد إرادة الله بإرادته يجعل الله يتكلم متى شاء توفيق الحكيم ويجعل الله يسكت متى شاء توفيق الحكيم أن يسكت الله ويجعل الله يحكم عباراته وكلماته عقل توفيق الحكيم وفكره.

وإذا كان الله سبحانه وتعالى يقول لرسوله وأحب خلقه إليه {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ* لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} إذا كان هذا هو حديثه مع رسوله.. أيبيح الله سبحانه وتعالى لتوفيق الحكيم ما لم يبح لمحمد عليه الصلاة والسلام أعتقد أن هذا غير مقبول.

ويقول الشعراوي: الكلمة عند عباد الله محدودة بكمال المتكلم فجاء توفيق الحكيم ليخضع كمال الله الأزلي إلى كماله المحدود، ويجعل الله سبحانه وتعالى يتكلم بلسان توفيق الحكيم وفكره وعقله، وكأنه في هذه الحالة قد أخضع فكر لخالق وقوله لفكر المخلوق فهل يصح هذا وهل يمكن أن يضع فكر خالق لفكر مخلوق بحيث يتساوى الفكر بينهما؟ وهل من الممكن أن أخضع أنا المخلوق الضعيف فكر الله لفكري فأتحدث عنه وأتكلم عنه أليس هذا خطأ؟!


غضبة إلي الله

كل هذا دفع نجل الشيخ خالد محمد خالد، محمد خالد ثابت إلي ان يجمع كل هذا الحديث في كتاب بعنوان "غضبة لله" كتبه سنة 1983 ، وخاصة بعد أن ساعده والدة في تاسيس دور نشر له باسم "ثابت"وتحولت إلي دار المقطم بعدها ، يقول نجل خالد محمد خالد عن هذه المرحلة " الحقيقة كان هذا الاتجاه يهاجم والدي و الذي كان له جولات فكرية مع مصطفي محمود ويوسف إدريس ومع غيرهم من المثقفون.

واضاف نجل خالد محمد خالد أن والده كان له كتاب في أخر حياته بعنوان  "لو شهدت حوارهم لقلت " فقد كان يري ان الدفاع عن الديمقراطية فضية دينية أكثر منها سياسية ،وكان يري أن الإسلام هو البيئة المثلي لتطبيق الديمقراطية الحقة ، إذ أنه جاء ليجعل من الناس أبررا وأحرارا ويجعل من الحكم سلطة للشعب ، لا تسلطاً علي الشعب ، لذلك أخرج هذا الكتاب ليتناول القصة بالكامل ويوثقفها للتاريخ . 

من "مع الله" إلي "مع نفسي" الحكيم يتراجع

لقد مرعلي هذه المعركة الفكرية قرابة خمسة وعشرون عاما إستخدم فيها المتعاركون كل الأسلحة الهجومية ، لقد كانت بين الثالوث الثقافي المرعب في ذلك الوقت بمصر "توفيق الحكيم ويوسف إدريس وزكى نجيب محمود" أما الطرف الأخرالذي دارت معه المعركة هوالمؤسسة الدينية بقوتها وحجتها.

وأمام المؤسسة الدينية وقوتها الناعمة في المجتمع بجانب ضغط الرأي العام المؤيد للشيخ الشعراوي تراجع توفيق الحكيم وقام بتغيير عنوان مقالاته من «حديث مع الله» إلى «حديث إلى الله» ثم غير العنوان مرة أخرى ليصبح «حديث إلى نفسي» بعد ذلك.

واعتذر الثلاثة ( الحكيم ـ ادريس ـ محمود ) للشيخ، وكتب يوسف إدريس في الأهرام تحت عنوان «توضيح عاجل واعتذار» أن ما نشر هو بالتأكيد خطأ فنى مطبعي سقط إصلاحه سهوا بحسن نية، وأنا لا يمكن أن أتولى بنفسي أي تجريح لشخصية عظيمة كشخصية الشيخ الشعراوي، وكنت قد صححت الجملة في البروفات، ولكن التصحيح لم ينفذ مما جعل الفقرة تبدو هجوما غير معقول أن يصدر منى تجاه الشيخ الذى أكن له - رغم الفوارق الفكرية - أعمق آيات الود والتقدير والحب والاحترام، وأنا - حتى في قمة خلافي معه - حين اتهمنا فضيلته بالكفر أنا والأستاذين الجليلين توفيق الحكيم وزكى نجيب ردت عليه ردا كان عنوانه "عفوا يا مولانا".

اما موقف الدولة فهو الموقف الذي يجب ان يسجل في هذا الصدد ، الذي أدهش الجميع في الداخل والخارج وهو وقوفها على الحياد بكل أجهزتها في هذه المعركة.. وهو ما أطلق عليه في ذلك الوقت.. موقف المتفرج تشاهد وتراقب !!!