رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الرسالة الازهرية في تفكيك خطاب الجماعة الإرهابية (4/6)

جريدة الدستور


الرسالة الرابعة

الإنفعالية

الشيخ محمد أبو زهرة وصف الجماعة بالهوس في إقدامها على الموت
المظهر الإسلامي والحرص على الموت ليس دليل حق ولا مؤشر صحة فهم
تصورات التنظيم ان الخطأ دائما ليس منها بل من الآخر المتآمر عليه
الإخوان تعرف طريقا للإصلاح أو المراجعة او النقد
دور التنظيم هو التخوين أو التفسيق أو اتهام النوايا دائما
التنظيم يعيش دور الضحية دائما ويكثر من التباكي حولها

تتناول الدراسة التي تعرضضها "أمان" خطاب جماعة الإخوان الإرهابية أقدم الجماعات الإسلامية المعاصرة بعد أنصار السنة المحمدية، والجمعية الشرعية ، تلك الجماعة التي انشقّ عنها أكثر التيارات وأغلب الجماعات الإرهابية المعاصرة .

واختارت الدراسة هذه الإشكالية في معالجتها لقضايا التطرف؛ لأن خطاب جماعة الإخوان المسلمين أحد أهم المؤثرات في الخطاب الإسلامي المعاصر، وأهم الروافد الخفية المغذية للتطرف في عالمنا؛ لذا يرصد الباحث عبد الباسط هيكل ، من خلال اتباع منهج تحليل خطاب المؤسس احسن البنا، وبعض كتابات منظري الجماعة، وفي الحلة الرابعة يناقش الباحث الخطاب الإنعزالي عند الجماعة والذي يؤدي إلي الخطاب الآحادي والتفكير المنغلق وإلي التفاصيل : 


دعوى المظلومية، وأستاذية العالم هي أول طريق التنظيم ليقتل الإبداع، ويجمد الفكر ويقيييد إطلاق ملكات العقل النقدية
القمر يلهمك بنوره ما دام في السماء، فإن وضعت قدمك عليه أدركت حقيقته المظلمة، وبدت لك عتمته حينها ينطفئ القمر أمام عينيك، كذلك النهر يحركك تدفق أمواجه ما دمت على ضفّته، فإن احتضنتك أعماقه لن تعود.. هكذا دوما يظل الجمال والإلهام والأمنية حية في نفوسنا ما دامت بعيدة نرسمها بخيالنا.. فإن لمسناها صارت شيئا آخر جديدا لم نكن نعرفه من قبل اسمه الواقع.

يرى البعض في الجماعات الإسلامية تدينا مشرقا متألقا من بعيد، يحرك عواطفه كلمات الإسلام التي تتردد على الألسنة، حين تعلو الشعارات المثيرة للانفعالات منها القديم مثل: "إن الحكم إلا لله"، ومنها ما استحدث مثل: "إسلامية إسلامية" "التمكين للإسلام" "الإسلام يخوض معركته ضد أعداء الإسلام" تثير هذه الكلمات مشاعر من يسمعها، فيظن أن هؤلاء فيهم الأمنية التي يرجوها، وأنهم يملكون ما يبحث عنه، فإذا اقترب منهم -وهو ما زال يملك عقلا يفكر به- تبدَّد الأمل وضاعت الأمنية ولمس واقع العتمة الفكرية التي تعيشها جماعات التدين التي تجيد تحريك الانفعالات، وتفشل في تحريك العقول بأفكار ترسم خطوات نحو التغيير، لا تعرف تعددية فكرية تتسع للاختلاف دون تخوين أو تفسيق أو اتهام للنوايا، تعيش دور الضحية وتُكثر من التباكي، ودعوى المظلومية، تتحدث عن أستاذية العالم وتنسى أن أول طريقها ليس تنظيمًا يقتل الإبداع، ويجمد الفكر بل إطلاق ملكات العقل النقدية وتنويع مصادر معرفته، فأنَّى وجدت الحكمة فهي ضالته المنشودة التي يبحث عنها، وهذا لا مكان له داخل الصف الإخواني الذي يعمل بمدخل بيانات واحد اسمه المصادر الإخوانية.

من يقترب منهم بعقله سيجدهم يملكون أدوات العيش تحت الأرض متماسكين برباط الخوف والشعور بالمؤامرة، وتحفيز الهمم للمواجهة، لكن لا يملكون العيش فوق الأرض؛ لأنهم لا يتحملون تعددية هي ضرورة من ضرورات الدولة، ولا يتحملون الخضوع للقانون العام، فلهم قانونهم الخاص بعيدا عن قانون الدولة، تعرف بلائحة التنظيم لا تحكم على ظاهر الإنسان بل تحكم على الباطن ولاءً وبراءً حبا وكرها سمعا وطاعة، جماعة تضعفها أشعة الشمس لأن النور يكشف حقيقتهم جمودا وانغلاقا وتقية، يجيدون التفتيش والمحاسبة للمخالف، ولا يملكون محاسبة قياداتهم. يتهمون الناس جميعا بالخطأ ولا يتهمون أنفسهم، هذا وغيره يدركه من يقترب منهم، وهو مازال يملك عقلا يفكر به.

أما من يقترب منهم وقد أخرص عقله، وأطلق العنان لانفعالاته ومشاعره تحركه أينما شاءت، فلن يسمع إلا دقات طبول الحرب المعلَنة على خصوم الإسلام، ويرى نفسه جنديا من جنود الإسلام في معركته مع المسلمين الذين أصبحوا –في نظرهم أعداء الإسلام، وهنا داء "التمايز بالإسلام" عن عموم المسلمين. فيتحدثون باسم الله والإسلام رغم أن الوحي انتهى بمحمد -صلى الله عليه وسلم.



تغيب المقدمات المنطقية التي تصنع النتائج، وتضعف أدوات التفكير من الاستقراء والاستنباط والملاحظة والتجريب، فتأتى النتائج ليس من عمليات عقلية بل حالات انفعالية، ثم تُركّب مقدمات لتلك النتائج بعد ذلك، لتبدو منطقية، ويكون التلقين المعرفي من القيادة والأداء الحرفي من القواعد الذي تتجلى دلالته في كلمة "التعاليم" أهم رسائل البنا، والأكثر مدارسة وتلقينا للإخوان، فاستيعاب تلك التعاليم هو طريق الأخ إلى التوثيق، فالتصعيد لدرجات السلم التنظيمي داخل الجماعات محكوم بالولاء للجماعة والبراء مما عداها بما يعمق درجات التبعية للجماعة، فلا يستكمل شروط العضوية إلا من تحققت فيه التبعية الفكرية والوجدانية التامة للجماعةالتي تتشكّل أفكارها تبعا لانفعالاتها وميولها حبًّا وكرهًا، وبمنأى عن صوت عقل العضو تتكون قناعاته العاطفية التي تصل به إلى تفويض كامل -تحت مسمى الثقة- لقيادة الجماعة المركزية كي تنوب عنه في التفكير والتقييم والمراجعة، مكتفيا العضو أحيانا بنقل بعض انطباعاته وأفكاره إليها عبر القيادة الوسيطة دون آلية واضحة للتقييم والمحاسبة من القواعد للقيادات، ثم يكون إنهاك القواعد بالعمل الحركي المستمر محتقرة محاولات التفكير بوصفها حالة من التنظير المؤخِّرة عن العمل، ممتدحة دوما حركية الجماعة تحت مسمى العملية والتطبيق للإسلام، وإن جاءت تلك الحركة دائرية تنتهى إلى حيث بدأت مُفضِية إلى تكرار الماضي على نحو ما كان من جماعة الإخوان المسلمين في مصر بعد قرابة نصف قرن لتصل إلى النقطة نفسها في سعيها لإقامة دولتها الإسلامية.

ويغيب أي تفكير نقدي يقيم أداء الجماعة ويتناول أسباب قصور أداء قيادتها، فهي القيادة التي ضحت على طريق الدعوة، ومُحصت؛ لتنال تلك المكانة الروحية في قلوب أبناء الجماعة، ويحل محل الخطاب النقدي التقويمي خطاب استسلامي للنتائج يُروج فيه عبارات التسليم بأقدار الله واختياره، وضرورة ابتلاء الصف المسلم؛ ليتبين الصالح من الطالح، ويردد الفكر التلقيني للجماعة عبارات من أمثال "الابتلاء من سنن الدعوات" فتستسلم القواعد التنظيمية لنتائج لم يتدخلوا في صناعة قراراتها، ولا يملكون محاسبة صانعيها.

ويسجن أتباع الجماعات أنفسهم في قفص صنعه لهم غيرهم، يفصلهم عن عالمهم الحقيقي، يمنعهم إسكات صوت عقولهم أن يعيدوا اكتشاف ما حولهم عبر عمليات تفكير حقيقية أداتها العقل وليس العاطفة، العقل الذى حثّنا الله على إعماله تعقلا وتفكرا عشرات المرات في كتابه الكريم، "أفلا تتفكرون" "لعلهم يتفكرون"، فحرّفتها الجماعة -فهْما- إلى "لعلهم ينفعلون"، ففي الوقت الذي تتسابق الأمم إلى تطوير أفكارها وإطلاق حرية التفكير، ما زالت الجماعات الإسلامية ترى التفكير شهوة يجب أن يتعفف عنها القواعد، فتحث أتباعها على الانقياد والتسليم المطلق مرددة مقولة: "لا أذاقك الله طعم نفسك، فإنك إن ذقتها لم تذق بعدها خيرا أبدا."

وكأن التفكير توجه غريزي يتعين على الإنسان ألا ينساق خلفه، إن صحّ هذا في الحيوان الذى تحركه غرائزه في تبعته للقطيع بلا فكر، فلا يتسق مع طبيعة الإنسان العاقلة، فتجريد الإنسان من عمليات فكرية قوامها التقييم والمراجعة والمحاسبة والنقد والإبداع هو دعوة إلى بهيمية الإنسان بتعطيل أهم آلة فيه وهي العقل.

 وسياق النص الذي قامت باجتزائه المراد به شهوات النفس، وليس مواجهات العقل، فأول الطريق ألا يهرب الإنسان من عقله، ولا يكن تابعا لأفكار غيره مهما كان بريقها وأن يعيد اكتشافها من جديد، إلا أن العقل المفكر متهم دائما داخل أسوار التنظيم، مهددا دوما بالنفي مع صاحبه خارج عالم الجماعة الانفعالي، فالجماعة لا تبحث عن الأفكار بل تسعى إلى الشحنات الانفعالية التي تخلق حالة من التمازج بين أفراد الصف، والدافعية لحراك جماعي متأجج بالحماسة يبعث على التضحية، فما أشبه خطاب الجماعة الانفعالي حديثا بخطاب جماعات الخوارج منذ قرون التي وصفها الدكتور محمد أبو زهرة بأنها: "أشد الفرق الإسلامية دفاعا عن مذهبها، وحماسة لآرائها، وأشد الفرق تدينا في جملتها وأشدها تهورا واندفاعا، وهم في اندفاعهم وتهورهم يتمسكون بألفاظ قد أخذوا بظواهرها، وظنوا هذه الظواهر دينا مقدسا، لا يحيد عنه مؤمن، وقد استرعت ألبابهم كلمة "إن الحكم إلا لله" . 



فتركّز الجماعات الدينية على الجانب العاطفي بداية من اختيار "اسم الجماعة" كلافتةٍ تُعرّف بها، وتحرّك مشاعر أتباعها، فأول اسم لجماعة منفصلة باسم العمل للإسلام كان "الشراة" أي الذين شروا أنفسهم أي باعوها في سبيل الله" فلا يخفى ما يحمله أسماء الجماعات قديما وحديثا من شحنات عاطفية تُحرِّك همم أتباعها، فالانفعال وحضور مشاعر الغضب لله –بزعمهم- يُشعل لهيب الحماسة لاستهداف الخطر، ظنًّا أن في ذلك فداء للإسلام، فأصبحت الجماعة ليست وسيلة عمل وأداة تغيير بل غاية مقدسة يجب أن تُصان، فهي النواة والركيزة؛ لإقامة دولة الإسلام، واعتناق فكر قيادتهم واجتهاداتهم محض إسلام يضحون من أجله، والموت دون أفكارها وأسرارها موت في سبيل الله، هذه الحالة التي وصفها الدكتور محمد أبو زهرة بالهوس في إقدام الخوارج على الموت، قائلا: "ربما كان منشؤه هوسًا عند بعضهم، واضطرابا في أعصابهم لا مجرد الشجاعة. وإنهم ليشبهون في ذلك النصارى الذين تحت حكم العرب بالأندلس إبان ازدهارها بالحضارة العربية، فقد أصاب فريقا منهم هوس جعلهم يقدمون على أسباب الموت وراء عصبية جامحة، فأراد كل واحد منهم أن يذهب إلى مجلس القضاء ليسب محمدًا –صلى الله عليه وسلم- ويموت، فتقاطروا في ذلك أفواجًا أفواجًا حتى تعِب الحجاب من ردهم، وكان القضاة يصمون آذانهم، حتى لا يحكموا بالإعدام، والمسلمون مشفقون على هؤلاء المساكين، ويظنونهم من المجانين." 

وهذا لا يختلف كثيرا عن تفسير الدكتور باروت لتلك الحالة عند الجماعات الإسلامية المعاصرة في إقبالها على الموت بقوله: "تقوم آلية المجاهدة الداخلية في الخطاب الجهادي على عمليتي الإسقاط والاجتياف، وهما آليتان تميزان الشخصية الاضطهادية، ففي عملية الإسقاط ينبذ المجاهد ما يعكر نقاءه الروحي المتعصب كحواس الحياة والرغبات في العالم الخارجي الكافر المرتد، في الوقت نفسه الذي يجتاف فيه صورة نقية متحررة من لغو الحياة وتأثيراتها. من هنا يعيش المجاهد حالة من هوس اهتياجي ما بين النزوع إلى الحياة والنزوع إلى كراهيتها ورفضها حيث يقترح الخطاب الجهادي "إحياء مبدأ الجهاد بالنفس واليد الذي يمثل تمويها أيدلوجيا لهذا الهوس." 

ولا يخفي عمق الضرر الذى تكبده المسلمون في تاريخهم قديما وحديثا من جماعات الخوارج على الرغم من مظاهر الإخلاص التي تجلت في هيئتهم، كما وصفها عبدالله بن عباس - رضي الله عنه - حالة الزهد والتعبد التي كان عليها الخوارج حين لقيهم مرسلا من قبل على - رضي الله عنه - ليناقشهم أفكارهم، فرأى منهم جباها قرحة لطول السجود، وأيديا كثفنات الإبل عليهم قمص مرحضة. 

فالمظهر الإسلامي والحرص على الموت ليس دليل حق ولا مؤشر صحة فهم، وليس هذا تفتيشا في قلوبهم، حتى لا نقع فيما وقعوا فيه من نصب محاكم تفتيش لأنصارهم قبل خصومهم يقيسون بها درجة الاتباع والولاء، فلا نشكك في نوايا الكثير من أنصار الجماعات الذين انبهروا ببريق الشعارات، بل نناقش الأفكار، فالإخلاص -إن قلنا بوجوده أو نفيه- لا يثبت أو ينفى صحة فكرة، بل الفهم والإعمال الصحيح للعقل هو السبيل إلى ذلك، فالإخلاص بلا فهم هو تعصب المنحاز إلى فكرة ما صائبة كانت أو خاطئة، سلمية كانت أو قاتلة، داعية إلى وحدة وطن أو مقسِّمة له.

وأخيرا يضيع مع تلك الانفعالية محاولات التقويم والمراجعة، مُنتجِة حالة من التبرير المستمر المزيِّف للأسباب الحقيقية، الملوِّن للواقع بأوهام الجماعة، فالواقع ما تراه الجماعة بعقلها التبريري، فهناك المبرر الأمني الذى يدفع الجماعة إلى إجراءات غير مؤسسية في اتخاذ القرارات، وهناك مبرر التربص والمؤامرة الذي يفسر كل تأخر وجمود، وهناك مبرر الآلام والابتلاءات الذي يبرر السكوت عن أي تطوير أو تغيير، وهناك مبرر الفهم القاصر للإسلام الذي يفسر نبذ هذا أو تكفير ذاك في صمت، هذا التبرير الذي أدمنته الجماعة أداةً لمواجهة الأزمات، وتفسير القصور جعلها تكرر المزيد من الأخطاء، وحرمها من الاستفادة من تجاربها.

فالتبرير حيلة دفاعية يلجأ إليها الانسان لمواجهة أزمات طارئة غير متوقعة، يكون التبرير معها بمثابة تبريد نفسي ذاتي في مواجهة حرارة الأزمات الخارجية، لكن متى أصرّ عليها الانسان، فيخرج من تبرير الى تبرير، يصبح مريضًا نفسيًّا في حاجة إلى عقاقير علاجية.. فماذا عن جماعة عاشت التبرير عقودا من الزمن! مغفلة أن التبرير كان طريق الشيطان الأول للمعصية - كما قال القرآن - حين أوجد الشيطان لفعله مبررًا، ومسوغًا قائلا: "رب بما أغويتني لأزيننَّ لهم في الأرض" لم يعترف الشيطان بذنبه، بل اتهم الله الذي اعترف بربوبيته بأنه سبب غوايته حين جعله صاحب إرادة واختيار بين الخير والشر والهداية والضلال، فالله من منظور إبليس هو الذي أضله؛ لأنه ركَّب فيه الاختيار، هكذا يخترع من يمشى في هذا الطريق أسبابا غير الأسباب، يبدأ من نفسه وينتهي عندها، يرى القدرة على الاختيار التي ركبها الله فيه عبئا يود أن يتخلص منه بالاتباع والانقياد، يبحث عن الأعذار ويُوجد المبررات لنفسه، فالخطأ دائما ليس منه بل من الآخر المتآمر عليه، فلا يعرف طريقا للإصلاح أو المراجعة. 

«ست رسائل أزهرية» تفكك خطاب الجماعة الإرهابية

الرسالة الازهرية في تفكيك خطاب الجماعة الإرهابية (1/6)

 الرسالة الازهرية في تفكيك خطاب الجماعة الإرهابية (2/6)

الرسالة الأزهرية في تفكيك خطاب الجماعة الإرهابية(3/6)

يتبع