رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فقه الواقع.. اختراع الإسلاميين لاستغلال الدين في المناورات السياسية

جريدة الدستور

يسمونه أحيانا فقه النوازل، وأحيانا أخرى فقه الواقع، بهدف تطويع النصوص الشرعية لخدمة من اخترعوه، وليس بهدف الارتقاء بالواقع كي يسير على الشرع، ففقه الواقع في أساسه ليس مرتبطا بالدليل الشرعي بقدر ما هو مبحث من مباحث "الحركية" التي بدأت بظهور الجماعات الإسلامية في العصر الحديث، خاصة على يد جماعة الإخوان المسلمين.

سيد قطب المؤسس الأول

وتاريخ المصطلح بدأ بالفعل في القرن الماضي مع ظهور فكرة "الحركية الإسلامية"، التي تبنتها جماعة الإخوان، والتي وضع بذورها سيد قطب في مؤلفاته التي تنظر إلى الإسلام من منظور مشوه، لما كان عليه الأصل الأول، وما جاءت به رسالة النبي صلى الله عليه وسلم.

قال سيد قطب في كتاب معالم في الطريق ص 56:
"والسمة الثانية في منهج هذا الدين: هي الواقعية الحركية، فهو حركة ذات مراحل، كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية، وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها فهو لا يقابل الواقع بنظريات مجردة، كما أنه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة، والذين يسوقون النصوص المختلفة بكل مرحلة منها، الذين يصنعون هذا يخلطون خلطا شديدا، ويلبسون منهج هذا الدين لبسا مضللا، ويحملون النصوص ما لا تحتمله من المبادىء والقواعد النهائية. ذلك أنهم يعتبرون كل نص منها كما لو كان نصا نهائيا. يمثل القواعد النهائية في هذا الدين، ويقولون - وهم مهزومون روحيا وعقليا تحت ضغط الواقع اليائس لذراري المسلمين الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان".

هذه الفقرة بما فيها من أزمات تعد البداية الحقيقية لظهور مصطلح فقه الواقع أو الفقه الحركي، وقد ميز قطب فيها بين الفهم التقليدي للدين، وبين الفهم الحركي، وفي سبيل ذلك وقع في كارثة ومخالفة فقهية وعقدية كبرى، باعتبار أن النص الشرعي ليس نصا نهائيا أو أنه يمثل القواعد النهائية للدين، وبالتالي فإن الأساس الذي بُني عليه هذا العلم المخترع جاء على أساس باطل، وهو اعتبار أنه سيأتي بما عجز عنه النص الشرعي وكأنه لا وجود لقول الله تعالى في سورة المائدة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}.

المجتمع هو الأصل

وقال في تفسير قوله تعالى: { قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]
" إن الفقه الإسلامي لم ينشأ في فراغ، كما أنه لا يعيش ولا يفهم في فراغ، لقد نشأ الفقه الإسلامي في مجتمع مسلم، ونشأ من خلال حركة هذا المجتمع في مواجهة حاجات الحياة الإسلامية الواقعية. كذلك لم يكن الفقه الإسلامي هو الذي أنشأ المجتمع المسلم؛ إنما كان المجتمع المسلم بحركته الواقعية لمواجهة حاجات الحياة الإسلامية هو الذي أنشأ الفقه الإسلامي."


وبهذا التصور فإن الفقه الإسلامي من وجهة نظر سيد قطب، لم يكن فقها وفهما لنصوص الشرع، بقدر ما كان نابعا من حركة المجتمع، وهذا التصور وحده يناقض ما جاءت به الرسالة النبوية، ويجعلها في مرتبة تالية لظهور المجتمع، ويبدو أن سيد قطب في هذه النقطة كان متأثرًا بالنظريات الاجتماعية التي ترى أن المجتمع هو الحافز لأداء الواجب، وليس الوحي أو الرسالة السماوية، ولكنه أعطى هذه النظريات شكلا إسلاميا، فبدلا من استخدام كلمة المجتمع مجردة، وصفها بالمجتمع الإسلامي، وبالتالي فقد صار المجتمع هو المتحكم في تحريك النص الشرعي، وجعله يتواءم مع حاجة المجتمع الذي ينظر إليه سيد قطب في إطار الجماعات الإسلامية.

فقه الحركة وفقه الأوراق

وقد فرق قطب بشكل أكثر صراحة بين الفقه التقليدي، وبين الفقه المخترع- فقه الواقع- فقال في فقرة تالية:

" إن "فقه الحركة" يختلف اختلافًا أساسيًا عن "فقه الأوراق" مع استمداده أصلا وقيامه على النصوص التي يقوم عليها ويستمد منها "فقه الأوراق"!
إن فقه الحركة يأخذ في اعتباره "الواقع" الذي نزلت فيه النصوص، وصيغت فيه الأحكام. ويرى أن ذلك الواقع يؤلف مع النصوص والأحكام مركبا لا تنفصل عناصره. فإذا انفصلت عناصر هذا المركب فقد طبيعته، واختل تركيبه".

الفقه الجديد

ويعلن صراحة عن إنشاء الفقه الجديد، وتعريفه فيقول في مقدمة تفسير سورة النحل بكتاب "في ظلال القرآن":

"ونحن نؤكد على هذه السمة في هذا القرآن- سمة الواقعية الحركية- لأنها في نظرنا مفتاح التعامل مع هذا الكتاب وفهمه وفقهه وإدراك مراميه وأهدافه.
إنه لابد من استصحاب الأحوال والملابسات والظروف والحاجات والمقتضيات الواقعية العملية التي صاحبت نزول النص القرآني.. لابد من هذا لإدراك وجهة النص وأبعاد مدلولاته، ولرؤية حيويته وهو يعمل في وسط حي; ويواجه حالة واقعة، كما يواجه أحياء يتحركون معه أو ضده. وهذه الرؤية ضرورية لفقه أحكامه وتذوقها، كما هي ضرورية للانتفاع بتوجيهاته كلما تكررت تلك الظروف والملابسات في فترة تاريخية تالية، وعلى الأخص فيما يواجهنا اليوم ونحن نستأنف الدعوة الإسلامية.
نقول هذه المقالة ونحن على يقين أنه لن يرى هذه الرؤية اليوم إلا الذين يتحركون فعلا بهذا الدين في مواجهة الجاهلية الحاضرة، ومن ثم يواجهون أحوالا وملابسات وظروفا وأحداثا كالتي كان يواجهها صاحب الدعوة الأولى - صلوات الله وسلامه عليه - والعصبة المسلمة معه".

ثم يقول:
وبمناسبة هذه الإشارة إلى فقه الحركة نحب أن نقرر أن الفقه المطلوب استنباطه في هذه الفترة الحاضرة هو الفقه اللازم لحركة ناشئة في مواجهة الجاهلية الشاملة. حركة تهدف إلى إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الجاهلية إلى الإسلام ومن الدينونة للعباد إلى الدينونة لرب العباد"


إذن فكتابات سيد قطب هي المستند الأصيل لمسمى فقه الواقع الذي ظهر بشكل مكثف فيما بعد عام 2010، خاصة في ظل أحداث الربيع العربي، والثورات التي وقف خلفها ودعمها الجماعات الإسلامية، وكانت المحرك الرئيس في الكثير منها، وقد استخدمت جماعة الإخوان وغيرها من الجماعات الإسلامية، ورقة فقه الواقع، في خداع الشعوب الإسلامية، خلال هذه الفترة، وظهر ذلك جليا في تناقضات مواقفها السياسية، وربطها بالدين.

القرضاوي يدلي بدلوه

كما حاول القيادي الإخواني الهارب يوسف القرضاوي، إثبات أن الفقه المخترع منحوت من الكتاب والسنة، وأنه كان معروفا عند الصحابة، من خلال محاولة التلبيس والتدليس الممنهجة عن طريق الخلط بين الفقه الحركي، والفقه الإسلامي المعروف وإثبات أنه أحد فروعه، مستندا إلى أن الفقه بشكل عام، لا يكون بمعزل عن الواقع، وقد شمل الفقه الإسلامي كل جوانب حياة المسلمين سواء السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية وغيرها.

وقد صنف القرضاوي بحثا في فقه الواقع، وقال:
"ومن هذا المنطلق وجدت أن جهلنا بواقعنا سبب رئيسي من أسباب مصيبتنا، وأيقنت أن فقه الواقع علم هجره الكثير من طلاب العلم ورواد الصحة.
وفقه الواقع علم أصيل تبنى عليه كثير من العلوم والأحكام، وفي ضوئه تتخذ المواقف المصيرية.
وعرف فقه الواقع بأنه: علم يبحث في فقه الأحوال المعاصرة، من العوامل المؤثرة في المجتمعات، والقوى المهيمنة على الدول، والأفكار الموجهة لزعزعة العقيدة، والسبل المشروعة لحماية الأمة ورقيها في الحاضر والمستقبل.

ورغم ادعاء القرضاوي أنه مخترع العلم الجديد إلا أنه يتلمس أصوله في القرآن والسنة وكلام السلف، وتتركز استشهاداته على المسائل السياسية وعلاقة المسلمين بغيرهم، كما يركز على مسائل الخداع والمراوغة.

يقول القرضاوي:
"فبعد أن بينت أسس هذا العلم في الكتاب والسنة، أشير إلى اهتمام السلف به، فهذا أبوبكر كما بينت في قصة فارس والروم يعني بهذه القضية عناية خاصة، وها هم الصحابة يتابعون هذه الأحداث متابعة ذات معنى، ويحزنون ويفرحون، بناء على ما يعلمونه من تأثير للهزيمة والانتصار في حياة المسلمين حاضرا ومستقبلا.
وعمر بن الخطاب يقول: "لست بالخب ولا الخب يخدعني" لست بالماكر المخادع- وحاشاه عن ذلك- ولكنه لا يمكن أن يخدعه الماكر المراوغ. فالمسلم كيس فطن، واع مدرك لما حوله".

وفي هذه الاستشهادات يظهر المكنون، الذي يخفيه قيادات الجماعة، وهو أن الأصل في هذا العلم المخترع المكر والمخادعة والتلون بحسب الحال.
كما يكشف القرضاوي في نهاية رسالته أن العلم المخترع خاص بدعوة الإخوان، وليس لكل المسلمين عن طريق استخدام المصطلح الذي تتميز به أدبيات الجماعة وهو (دعوتنا) أي دعوة الإخوان، وهو اللفظ الشائع في كل كتاباتهم منذ المؤسس الأول للجماعة حسن البنا، فيقول:

"وهذا أن هذا العلم أصل من أصول (دعوتنا)، وأساس لكثير من الأحكام والمواقف، فحري بطالب العلم أن يعطيه حقه من الرعاية والعناية، ويعتبره ركنا من أركان العلم ودعامة من دعائمه، والحذر الحذر أن يعتبر تعلمه نفلا أو اختيارا، فالأعداء متيقظون، يعملون ليل نهار للإفساد في الأرض، ويزعمون أنهم يصلحون فإذا غفلنا عنهم وتركنا لهم الساحة فيعبثون فـ (متى يكمل البنيان يوما تمامه إذا كنت تبني وغيرك يهدم)، "وإذا تهاونا في هذا العلم وتركناه لغيرنا فسيستخف بنا الأعداء".


تطبيق الجماعات لفقه الواقع

كما رأينا الجانب النظري وأصول، فإن كل الجماعات الإسلامية سواء الدعوية والحركية منها، تستند إلى هذا العلم المخترع في كل قضاياها، وهو ما يمكن رؤيته دون أدنى عناء في مواقف الدعوة السلفية السكندرية من جميع المواقف السياسية وغيرها التي وقعت بعد ثورة 25 يناير، وحالة التناقض المتطرف من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، والتي تبدو أكثر وضوحا في فتاوى دعاة حزب النور والدعوة السلفية، التي تحرم شيئا ثم تتراجع وتبيحه وتبيح شيئا ثم تحرمه، لتحقيق مصالحها.

وكذلك يمكن رؤية هذا في الجرائم التي ترتكبها الجماعات المسلحة سواء كانت "داعش" أو القاعدة وغيرها، التي تتحجج بفقه الواقع لإثبات وجود مستند شرعي لها في جرائمها.