رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خطاب العنف والتأويل.. مفاهيم مغلوطة عن الكفر والإيمان (1)

جريدة الدستور

الإرهابي ليس كائنا خرافيا، جاء من كوكب آخر وسقط على الأرض، ليمارس طقوسه، وهوايته التي يتلذذ بها، لكنها شخص طبيعي مثلي ومثلك، ربما كان جارك أو زميلك، وربما تتحول أنت في لحظة من اللحظات لتكون مثله، إذا توافرت لديك البيئة المناسبة لذلك، لكنه تعرض لظروف خاصة، جعلته في الصورة التي تراه عليها.

وتعتبر قضية التأويل الباطل أول الطرق، التي تبدأ من خلالها رحلة تكوين العقل الإرهابي، والتي تكون في البداية، مجرد شعور داخلي يدفع الشخص إلى البحث عن التدين، ثم ما يلبث أن يجد ذلك في كيان علمي ينتمي إليه، ليكون لنفسه شخصية خاصة، ويدفعه القصور في الجانب العلمي للكيان الذي انتمى إليه بعد ذلك، إلى الارتماء في أحضان اقرب حركة أو تنظيم يشبع توجهاته، وتفسيره الخاص للنصوص الشرعية، تتميز تلك الحركة أو التنظيم الجديد بتلاقي الأفكار في شبكة نقاط تحدد الأطر العامة لفهم النص الديني بشكل خاص، عن طريق تأويله بشكل مشوه، أو مبتور، ومن ثم إعلان الكيان الذي تم تكوينه في هذه المرحلة لينطلق باسم جماعة أو فرقة ذات أدبيات خاصة، وأخطرها بالطبع تلك التي تغلب العمل الحركي واستخدام القوة.

وتعتمد الجماعات المتطرفة على خطاب التأويل؛ لإضفاء الشرعية الإسلامية على أعمال العنف والإرهاب، التي تمارسها ضد المسلمين وغيرهم على حد سواء.

وتاريخ التأويل طويل ولا يقتصر على الدين الإسلامي وحده فهو ممتد إلى كل الأديان السماوية، وهو أصل فساد الدين والدنيا معا، به خربت بلاد وضيعت أمم، وما نشهده حاليًا من موجات عنف وإرهاب مرده الأول إلى التأويل الباطل لنصوص الشرع، وهو نتيجة طبيعية لتوجيه رسالة السماء إلى غير ما أنزلت من أجله.

ويأتي التأويل الباطل دائما على وجهين:
إما إبطال المعنى الشرعي الصحيح، وإنزاله في غير مواضعه، أو إبطال النص الشرعي نفسه، ويجتمع الوجهان في كل أدبيات الجماعات المتطرفة، منذ القرون الثلاثة الأولى المفضلة للإسلام، إلى يوم الناس هذا.

فالوجه الأول يتم فيه تحريف النص الشرعي واستنطاقه؛ كي يتوافق مع وجهة نظر الجماعة أو الفرقة، ولا يكلف صاحبه عناء البحث عن المراد من النص؛ بالرجوع إلى مصادره الأصلية، فحسبه فقط العثور على ألفاظ تتشابه ووتواءم مع ما يريد إسقاطه على الواقع.

أما الوجه الثاني وهو إبطال النص الشرعي، فيتم عن طريق إنكار صحته، أو إخفائه بشكل متعمد إذا كان يخالف منهج الجماعة ويثبت فسادها، وهي أكثر من أن تحصى، ومنها تعامل الجماعات المتطرفة مع أحاديث الفتن التي تعارض منهجها وتثبت جرائمها.

تحريف معنى الإيمان

ويعد تحريف معنى الإيمان والكفر، أول أبواب التأويل الباطل التي ابتلي بها المسلمون، وأدت إلى تكفير من بَشّرهم النبي صلى الله عليهم وسلم بالجنة، وشهد الله تعالى لهم بالإيمان والرضا عنهم، وكان من نتيجة ذلك مقتل الكثير من كبار الصحابة في الفتنة الكبرى، التي مازالت آثارها قائمة إلى اليوم.

ولعل السؤال الدائم الذي يدور حول خطاب الجماعات الإرهابية هو: لماذا يكفروننا؟ ولمعرفة السبب ينبغي أولا معرفة معنى الإيمان، وكيف حرف هؤلاء مفهومه عن مراد الله وتعالى، وبالتالي اتهموا المسلمين بنقيضه ورموهم بالكفر واستحلوا دماءهم؛ رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين بشكل واضح لا لبس فيه المراد بألفاظ الكفر والإيمان وبصورة لا تحتاج إلى تأويل، إلا أنه وقع النزاع في القرون الأولى حول هذين المفهومين لسببين:

الأول: تخصيص العام
الثاني: تعميم الخاص

وأرجع العلماء هذا الخلط إلى كثرة ذكرهما واستخدام الناس لهما، فقد ورد اللفظان- الإيمان والكفر- مقيدين بشروط، كما وردا مطلقين على العموم، والثابت أن اللفظ إذا كثر استخدامه كثرت الشبهات حوله، وقد عمدت الجماعات المنحرفة والمتطرفة إلى تأويلهما، وتفسيرهما بغير مراد الله تعالى مع سبق الإصرار والترصد.

وتعد قضية الإيمان أولى المسائل الخلافية التي نشأت في العقيدة الإسلامية، وبدأت منذ ظهور فرقة الخوارج أو الحرورية التي كفرت علي ابن أبي طالب، واتهمته بعدم تحكيم شرع الله، وقد اطلق عليهم اسم المُحكِّمة نسبة إلى هذا الاتهام الذي وجهوه إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عمه، وأول من آمن معه من الصبيان بعدم تحكيم شرع الله، ورفعوا في وجهه المصاحف على أسنة الرماح، في معركة "النهراون" التي أطلقوا فيها شعار "لا حكم إلا لله"، وقد تنبه علي ابن أبي طالب رضي الله عنه إلى شبهة هؤلاء وقال: "الله أكبر كلمة حقٍ أريد بها باطل"، فلم يكن من الخوارج بعدها إلا تكفيره رضي الله تعالى عنه، فقالوا له: "إنك لم تغضب لربك وإنما غضبت لنفسك؛ فإن شهدت على نفسك بالكفر، واستقبلت التوبة، نظرنا فيما بيننا وبينك، وإلا فقد نبذناك على سواء إن الله لا يحب الخائنين".

ومن تكفير علي ابن أبي طالب إلى تكفير مرتكب الكبيرة، الذي كان أول المسائل العقدية التي دار حولها نزاع طويل، فهل هو مخلد في النار مع الكافرين كما زعم الخوارج؟، أم من الناجين منها مع النبيين والصديقين كما قالت المرجئة؟ أم أنه في منزلة بين المنزلتين، كما قالت المعتزلة؟ أم غير ذلك كما ذهب الأشاعرة وغيرهم من المتكلمين؟.

ومن هنا بدأ الخلاف حول مفهوم الإيمان والكفر، نتيجة اختلاف التأويلات العقلية البحتة التي طرحت النص الصريح من الشرع وفضلت عليه آراء الرجال، فبدلوا أحكام الله في خلقه بأحكامهم فكفروا بغير دليل، وجعل غيرهم إيمان فرعون كإيمان موسىى عليه السلام، باعتبار أن الإيمان كلاً لا يتجزأ على النحو التالي:

الخوارج: مرتكب الكبيرة كافر مخلد في النار.
المرجئة: ردوا على قول الخوارج بأن مرتكب الكبيرة مؤمن كامل الإيمان، طالما أقر بالشهادتين أو نطق بها.
المعتزلة: ردوا على الطرفين مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين.
وجر ذلك سلسلة طويلة من الآراء والاجتهادات، التي تركت الطريق السهل المُعبّد، بالرجوع إلى النصوص الشرعية الصريحة، واستبدلوها بالحجج العقلية، والأحاجي المنطقية التي ليتها لم تكن.

وما يهمنا هنا هو ما ذهب إليه الخوارج، رغم أن تكفير المخالف يعد سمة رئيسية في أغلب الفرق التي انحرفت عن الطريق السليم، إلا أن فرقة الخوارج، قد اشتهرت به، وحولت التكفير من مجرد رأي إلى عمل حركي، واختارت طريق العنف في ذلك، وقد ظل هذا الطريق إلى اليوم في صورة الجماعات الإرهابية المنتشرة في العالم الإسلامي والتي تكفر المسلمين بغير دليل، وتستحل دماءهم وأموالهم وأعراضهم.

لم يكن منطلق فرقة الخوارج، شرعيا في الأساس، بقدر ما كان نابعا من قضية النزاع على السلطة، وأمور الحكم، وقد أعلن الخوارج عن أنفسهم منذ أول لحظة برفع شعار "إن الحكم إلا لله" الذي يعتبر الأساس الذي ترتكن إليه كل الجماعات الإرهابية اليوم، يكفرون بها كل من لا ينتمي إليهم باعتبار أن تطبيق حكم الله، صار شيئا حصريا عليهم وحدهم دون غيرهم.

لماذا يكفروننا؟

تشويه مفهوم الإيمان لدى الجماعات التكفيرية، يعود إلى أنهم اعتقدوا أن الشخص الواحد لا يكون مستحقا للثواب والعقاب، أو الحمد والذم، فأحبطوا جميع حسناته بالمعصية أو الكبيرة التي يفعلها، وقالوا إن الإيمان هو الطاعة يزول بزوالها.

وقد نظر هؤلاء نظرة قاصرة إلى النصوص الشرعية، التي يوهم ظاهرها تكفير مرتكب الكبيرة، ومنها الحديث الذي رواه الطبراني: "‏لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف وهو مؤمن‏"‏‏.
وكذلك قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة:44]، وغيرها الكثير من النصوص التي تتحدث عن الكفر والإيمان.

ومن أسباب الوقوع في الفهم الخاطيء للإيمان والكفر، الاعتماد على نقل بعض النصوص الشرعية دون الأخرى، فقد يكون المنقول مقيدا بشرط مخصوص؛ فيظن فيه العموم فيطلق الحكم الخاص على العام، أو العكس وهو ما نراه دائما في مناقشة أدلة الجماعات التكفيرية فيما يرتكبونه من جرائم.

والحقيقة فإن النظر إلى النصوص منفردة منزوعة من سياقها، قد يوقع الكثيرين في هذه المنزلق، فالنصوص السابقة على سبيل المثال تدل في ظاهرها على تكفير كل من يقع في معصية من المعاصي، مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر، وهو ما تبناه الخوارج والجماعات الإرهابية والمتطرفة من بعدهم وأضافوا إليها أمور الحكم، رغم أن النصوص الأخرى خاصة نصوص تطبيق الحدود، تخرج هؤلاء جميعا من دائرة الكفر، وتضعهم في دائرة الإيمان، فالشرع لم يأمر بتطبيق الحدود على "كافر"، وما نزلت آيات الحدود إلا في حق من ثبت إسلامه، من أجل تطهيره مما ارتكبه من المعاصي.

إذن كيف يمكن توجيه هذه النصوص التي جاءت بألفاظ صريحة على تكفير مرتكب الكبيرة ونفي الإيمان عنه؟ وهل يمكن أن يحمل الإنسان الإيمان والكفر والشرك في آن واحد؟ وهل يمكن أن يكون العبد مستحقا للعقاب والثواب في الوقت نفسه؟

النظرة العقلية، تقول: نعم يمكن كل ذلك، وهو ما يحدث في حياتنا العادية، فالمرء يخطيء فيها ويصيب، ويثاب ويعاقب.

أما النصوص الشرعية الدالة على هذا فهي أكثر من أن تحصى، وهو ما يطلق عليه علماء العقيدة مصطلح "زيادة الإيمان ونقصانه"، فالإنسان يحمل الخير كما يحمل الشر ويستحق العقاب على طاعته والعقاب على معصيته وما جعل الله مكفرات الذنوب إلا لهذا.

ومن الأدلة القرآنية الدالة على أن الإيمان يزيد وينقص قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2].
وقوله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، [آل عمران: 173]
وقوله تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4].
وقوله تعالى: { لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31].

كما أن السنة النبوية زاخرة بالكثير من الأدلة التي تحل الإشكالية التي تعتبر منطلقا لخطاب التأويل والعنف الذي تسير عليه كل الجماعات التكفيرية، ومنها آيات الحاكمية.