رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الخلافة لمن؟.. تحريف الشريعة على مذبح السياسة

جريدة الدستور

"إقامة الخلافة"، الهدف الأول لجميع التنظيمات والجماعات الإسلامية، يعتبرونها ركنا من أركان الإيمان، التي لا يكون المسلمون مسلمين إلا بها، ولا يكتمل إيمانهم إلا بالانضواء تحت خليفة عام، يحكم الجميع باسم الدين الذي ارتأوه، أو تصوروا أنه وحي الله، الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

الفكرة تغيب وتظهر في فترات التاريخ الإسلامي، حتى في فترة وجود الخلافة، على اختلاف طبيعة الخلفاء في العصور المتباينة كانت هناك محاولات لخلق كيانات سياسية موازية، تحت اسم الخلافة نجحت أحيانا، وفشلت في أحيان أخرى، حتى كان العصر الواحد يحمل أكثر من دولة، وخلافة، تنشأ بينها الصراعات والحروب إلى أن تقضي إحداها على الأخرى.

وفي القرن الماضي، سقطت كلمة الخلافة نهائيا من العالم الإسلامي، الذي تم تقسيمه إلى دول ودويلات، وحدود سياسية، كل دولة لها قوانينها التي تختلف عن الأخرى، الأمر الذي أوقع المسلمين في حيرة، حول نظام الحكم، وهو ما أثار التساؤل الأبرز وقتها، حول جواز أن يعيش المسلمون بغير خليفة عام تتوحد تحت لوائه كلمتهم أم لا؟، وانبرى الكثير من الكتاب، والشيوخ في البحث عن إجابة لهذا التساؤل الذي أثار معركة فكرية ضخمة في مصر، خاصة بعد صدور كتاب "الإسلام وأصول الحكم" عام 1926م للشيخ الأزهري علي عبدالرازق، الذي سقط بدوره في الكثير من المزالق، التي جعلته عرضة لسهام الإسلاميين، وحاشية الملك فؤاد الذي قرر وقتها أن يتولى منصب الخلافة، فتاهت القضية بين الدين والسياسة.

لم تكن الإجابة على السؤال السابق لدى عبدالرازق أو لدى التيارات الموسومة بالإسلامية منذ سقوط الخلافة، تعتمد على النصوص الشرعية، ووحي السماء، بل كانت عبارة عن تأويلات وآراء تقترب وتبتعد عن نصوص الوحي، وكانت الدعوة الأم في هذا المقام، لجماعة الإخوان المسلمين، والجماعة الإسلامية في باكستان لمؤسسها أبي الأعلى المودودي، وغيرها من الجماعات والحركات التي تبنت فكرة إقامة الخلافة، كما اتخذت بعض الجماعات والحركات فيما بعد قضية الخلافة، غاية لا وسيلة، مثل حزب التحرير الإسلامي لمؤسسه تقي الدين النبهاني عام 1953.

وانبرى منظرو، وفقهاء تلك الجماعات خاصة الإخوان، وحلفاؤها لتأصيل الفكرة من الناحية الشرعية تحت شعار، (حتى يكون الدين كله لله)، فهل حقا الخلافة أصل من أصول الإيمان؟ أم أنها شيء آخر؟.

نبدأ من أبي الأعلى المودودي في كتابه "الخلافة والملك".
قال المودوي: "إن الشكل الصحيح لحكومة البشر في نظر القرآن، هو أن تؤمن الدولة بسيادة الله ورسوله القانونية!!، وتتنازل لهما عن الحاكمية وتؤمن بأن تكون خلافة نائبة عن الحاكم الحقيقي تبارك وتعالى، وسلطاتها في هذه المنزلة لابد أن تكون محدودة... سواء كانت هذه السلطات تشريعية أم قضائية أم تنفيذية".

واستكمل: "وعلى هذا فالإنسان هنا، ليس هو السلطان المالك نفسه، وإنما هو خليفة المالك الأصلي".
وأضاف: "إن من تناط به هذه الخلافة الشرعية السليمة ليس فردا أو أسرة أو طبقة وإنما هو الجماعة- بجملة أفرادها- التي تؤمن بالمبادئ سالفة الذكر وتقيم دولتها على أساسها".

إذن فالخلافة من وجهة نظر هذا الاتجاه محصورة في الحاكم وحده، جعلوا جميع النصوص الشرعية، التي تدور حول العبودية لله موجهة للحاكم وحده دون غيره من المسلمين، وهو ما يجعل إقامة الخلافة بهذا المنظور أمرا إلهيا، لا يجوز لبشر أن يتحول عنه، باعتبار أن نظام الحكم الوحيد المسموح به في الإسلام، هو تلك الصورة النمطية عن للخلافة.


الخلافة في القرآن

ولمناقشة هذه القضية نبدأ من كتاب الله تعالى.
وردت كلمة "خليفة" في القرآن الكريم مرتين، الأولى في سورة البقرة
قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة:30).
والثانية قوله تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى) (ص: 26)
ووردت كلمة "خلفاء" في القرآن، 3 مرات في قوله تعالى: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) (الأعراف:7) وقوله تعالى: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا) (الأعراف:74)، وقوله تعالى: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ) (النمل: 62)
ووردت كلمة يستخلفكم، 4 مرات، في سورة الأنعام والأعراف وهود، والنور، كما وردت مادة "خلف" في كتاب الله تعالى 55 مرة.

ولم ترد كلمة الخلافة ومشتقاتها اللغوية في القرآن، مقرونة بالحكم إلا في آية سورة (ص)، في قوله تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى)، قال الطبري في تفسيرها: وقلنا لداود : "يا داود إنا استخلفناك في الأرض من بعد من كان قبلك من رسلنا حكما بين أهلها".

إذن فالاستخلاف في الآية الأخيرة معناه التوالي والتتابع والوراثة، فقد تلقى داود عليه السلام، ميراث من كان قبله من الأنبياء؛ لنشر كلمة الله وتبليغ رسالته، كما أن داود كان ملكا بالفعل.

ومن خلال البحث في تفسير الآيات السابقة فقد تبين أن مصطلح الخلافة، في كتاب الله تعالى يحمل ثلاثة وجوه:
الأول: التتابع والتوالي.
الثاني: الابتلاء والتكليف بالأوامر والأحكام الشرعية.
الثالث: الحكم والانقياد لله تعالى.

وتستند دعوات إقامة الخلافة إلى الوجه الثالث، ويعتبر أنصار هذا القول أن الخلافة أمر شرعي، وجعلوها مقصورة على نظام الحكم فقط، وليس على إطلاقها كما أراد الشرع، ومن ثم اعتبروا إقامة الخلافة من أوجب واجبات الدين، التي لا تقام فرائضه إلا به، ومن ثم صار الهدف الأسمى، والغاية العظمى من حياتهم، هو الوصول للخلافة من هذا المنظور، مهما كلفهم الأمر، باعتبار أن ذلك ذروة سنام الدين.

والحقيقة فإن النظرة الشرعية العامة لهذه المسألة، لا يمكن أن يتوارى وراءها ما فعله هؤلاء من تقييد المطلق، وتخصيص العام، عن قصد أحيانا وعن غير قصد أحيانا أخرى؛ للوصول إلى مبتغاهم السياسي في المقام الأول، لتكون لهم الهيمنة والغلبة وأستاذية العالم.

الخلافة تكليف عام ليس مقيدا

قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة:30).

يكاد يجمع المفسرون على أن الخليفة في هذه الآية الكريمة، يشمل جميع عباد الله في أرضه، وليس الحكام، أو الحاكم العام لجميع المسلمين، وهي من الناحية العقدية، تفيد عموم التكليف الذي ارتضاه بنو آدم في الميثاق الأول الذي أخذه الله عليهم، في عالم الذر، قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ)[الأعراف:172]، قال الطبري: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واذكر يا محمد ربك إذ استخرج ولد آدم من أصلاب آبائهم، فقررهم بتوحيده، وأشهد بعضهم على بعض شهادتهم بذلك".

كما أنها تطبيق عملي للعهد الذي قطعه البشر على أنفسهم أمام الله تعالى بقبول التكليف في قوله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا) [الأحزاب:72].

إذن فمهوم الخلافة في القرآن الكريم جاء على الإطلاق والعموم، وليس كما فهم الجماعات الإسلامية بأن المقصود به أمور الحكم وحدها طبقا لمسألة الحاكمية التي ابتدعها القوم في أدبياتهم منذ بداية القرن الماضي.

وبالعودة إلى ما ذكره المودوي في الفقرة التي ذكرناها سابقا، والتي تتحدث عن الخلافة في قوله: " إن الشكل الصحيح لحكومة البشر في نظر القرآن، هو أن تؤمن الدولة بسيادة الله ورسوله القانونية!!"، وهي عبارة تحمل الكثير من الجرأة الشديدة على الله ورسوله، ولسنا بصدد شرحها الآن، لكنها تؤكد على مدى اهتمامه بقضية الخلافة التي يعتبر فيها الحاكم خليفة عن الله في الأرض كما في قوله: "وعلى هذا فالإنسان هنا، ليس هو السلطان المالك نفسه، وإنما هو خليفة المالك الأصلي".

هل الإنسان خليفة عن الله في أرضه؟

والخلافة بهذا المفهوم تكون على وجهين:
الأول: غياب المستخِلف - بكسر الخاء- وتنصيب من ينوب عنه في حال عدم وجوده، لعجز منه، أو حاجة، فيكون خليفة له.
الثاني: أن يكون الخليفة في موضع اختبار، وابتلاء مع قدرة المستخِلف على القيام مقامه.

ولما كان الوجه الأول ممتنعا في حق الله تعالى، المتصف بصفات الكمال، والمنعوت بنعوت الجلال، فلا تكون الخلافة إلا ابتلاء واختبارا، لكل عباد الله تعالى في أرضه، بمعنى أن كل عبد من عباد الله، قد استخلفه الخالق وابتلاه بما رزقه به من جسد، وصحة وأموال، وبنين، وغيرها من النعم، ويكون مسئولا أمام الله تعالى يوم القيامة عن كل هذه الأشياء التي استرعاه الله عليها، يتساوى في ذلك الحاكم والمحكوم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال:
"كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئول عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ ومَسْئولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، -قَالَ: وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ: وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ- وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ".

إذن فالخلافة في الكتاب والسنة، ليس المقصود بها- فقط- ذلك المصطلح السياسي الذي يشترط أن يكون على رأس المسلمين إمام واحد، يحكمهم ويسوسهم بالصورة النمطية التي تسعى الجماعات الإسلامية إلى تحقيقها.

كيف تتحقق الخلافة؟

كما أن النبي صلى الله عليه وسلم، قد وضع ما فيه الكفاية، لتحديد متى، وكيف تكون الخلافة على منهاج النبوة، والتدرج منها إلى الملك العضوض، الحكم الجبري، ثم عودتها مرة أخرى في آخر الزمان في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن حذيفة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبريا فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت".

وقد أوضح علماء الحديث، أن هذا النص من دلائل الإعجاز النبوية، وأكدوا أن ما ذكره قد وقع بالفعل في الخلافة الراشدة على منهاج النبوة في عهد الصحابة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، كما ضم أكثر أهل العلم فترة خلافة عمر بن عبدالعزيز لتلك الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، وتحولت الخلافة بعدها بالفعل إلى ملك عاض وما تبع ذلك من أمور.

كما أكد الكثير من العلماء أن الخلافة الإسلامية الراشدة قد تتخلل الفترات الزمية التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم، إذا وقعت شروطها التي قال عنها الله تعالى في سورة النور: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ) [النور:55]

أخطاء في الفهم

أصل الانحراف في دين الله يبدأ من التأويل الذي يعتمد على تخصيص العام، وتقييد ما أطلقه الشرع، ويعد ذلك أهم وأخطر الأخطاء التي وقع فيها عن قصد أو غير قصد، أغلب المنتمين للتيار الإسلامي، الذين ينادون بالخلافة، وهو ما يخالف دعوتهم لتطبيق شرع الله تعالى ، الذي يستلزم العلم والفهم والانقياد التام لأوامره وتكاليفه بغير تأويل أو تحريف.
فقد حرفوا معنى الخلافة عن مراد الله تعالى، وحصروها فقط في نظام حكم على نمط خاص، ولم يرد في الشرع من قريب أو بعيد إشارة إلى معنى الخلافة بهذا المفهوم، لكنها بذرة الحاكمية التي قدمت الرأي على شرع الله فسالت الدماء أنهارا بسببها في بلاد المسلمين، فلا شرعا أقاموا ولا دنيا.