رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هوامش فارقة فى الحرب الروسية

العيون والعقول مشدودة منطقيًا مع تدافع الأحداث العسكرية والسياسية، التى تجرى فى الحرب الروسية الأوكرانية، وتعد الأخبار اليومية التى تتعلق بالتقدم العسكرى الروسى على طريق الاستيلاء أو تدمير المدن الواحدة تلو الأخرى، هى الأكثر إثارة وتحظى بالجانب الأكبر من التفاعل، باعتبار هذا المسار وحده هو الذى سيحدد مستقبل الأزمة، حتى الآن على الأقل. لكن يظل على هامش تلك الأزمة المركبة العديد من الأحداث التى تجرى على «الهامش»، وهو توصيف يبدو «مخلًا» باعتبار موضعها المؤثر فى صناعة الحدث، أو كونه من التداعيات المهمة التى أفرزتها الأحداث ولن يقف تأثيرها فى المدى المنظور. ولهذا سنتناول بعضًا مما يجرى فى هذه الهوامش فقط وفق التسمية المتداولة، وإن كنا نرى أنها من المؤثرات الفارقة التى ربما ستحظى بالاهتمام لاحقًا، أو ستتداخل مع الأحداث والتفاعلات مما سيدفعها قريبًا لبؤرة المشهد. 

(١)

أزمة اللاجئين الأوكرانيين التى أنتجتها العمليات العسكرية الروسية؛ تجاوز فيها عدد من خرج من أوكرانيا إلى الدول المجاورة، رقم ٢.٥ مليون لاجئ، انتقلوا إلى بلدان الجوار الجغرافى المباشر مثل بولندا التى تستضيف وحدها مليونًا منهم، ومعها دول أخرى بأرقام تتفاوت بين عشرات ومئات الآلاف. هذا الجانب من الأزمة الذى لم يشمل النازحين فى داخل أوكرانيا، وهم رقم مليونى أيضًا، وإن لم يتأكد حجمه بدقة وسط سيولة المعارك وانتقالات سكان القرى والبلدات الصغيرة. وصف هذا الهامش من الأزمة باعتباره أسرع وأكبر «عملية لجوء» تجرى منذ الحرب العالمية الثانية، فضلًا عن كثير من التعقيدات والأبعاد الإنسانية المأساوية التى يتصور، أنها تلف هذا الجانب الذى يرقب انتهاء هذا العنف المدمر فى أسرع وقت ممكن. لكن الواقع أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فهناك أزمة مستجدة بدأت فى التشكل خلال الأسابيع الماضية مع تدفق أمواج اللاجئين الأوكرانيين، فقد أدى الترحيب الذى أبداه الاتحاد الأوروبى باللاجئين الأوكرانيين إلى دفع المهاجرين الآخرين المحاصرين فى ليتوانيا، إلى المطالبة بمعاملة متساوية كلاجئى حرب. 

المثير أن هؤلاء الآخرين غالبيتهم يحملون جنسيات عربية وتضمهم الموجة التى قدرت بعشرات الآلاف، الذين عبروا الحدود البيلاروسية متجهين نحو ليتوانيا، والتى اعتبرتهم الأخيرة قد وصلوا إليها بطريق غير شرعى، بل وفجرت أيضًا خلافًا كبيرًا بين ليتوانيا وبيلاروسيا. الحكومة الليتوانية حملت رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو المسئولية الكاملة عن هذا الأمر، على اعتبار أن لوكاشينكو قام بتسريب هؤلاء اللاجئين بغرض الانتقام، ردًا على العقوبات التى فرضها الاتحاد الأوروبى على نظامه فى أكتوبر الماضى، على خلفية ما وصفه الاتحاد الأوروبى بالانتخابات الرئاسية المزورة التى فاز فيها. وفى بعض التصريحات الإعلامية أشهرها مع الإذاعة البريطانية بى بى سى، أكد الرئيس البيلاروسى وقوع تلك الإشكالية، ففى الوقت الذى نفى فيه أن تكون بلاده وجهت الدعوة للآلاف لخلق أزمة على الحدود، اعترف بأنه من المحتمل جدًا أن تكون قواته ساعدت اللاجئين على العبور إلى بولندا ولاتفيا وليتوانيا. هذه الأزمة مستمرة منذ نهاية العام الماضى ٢٠٢١، لكن الهجوم الروسى الأخير على أوكرانيا والدور التعاونى البيلاروسى الذى يجرى لصالح روسيا أدى إلى تفاقمها، حيث زاد من تدفق المهاجرين إلى دول الاتحاد الأوروبى وكشف معه عن كثير من الخبايا وأنتج مشكلات مستجدة ظلت جميعها تحت السطح. 

(٢)

تبرز دولة بولندا وأدوارها فى هامش جانبى آخر يبدو أكثر إثارة من سابقه، حيث نشرت صحيفة «برافدا» الروسية تقريرًا يحمّل وارسو العديد من تبعات ما يجرى، بل يحلل الأحداث الماضية باعتبار بولندا تدفع باتجاه إشعال حرب عالمية ثالثة. فبعد الاجتماع الذى عقد فى العاصمة الأوكرانية كييف بين الرئيس فولوديمير زيلينسكى ورئيس الوزراء البولندى ماتيوز مورافيكى، ونائبه ياروسلاف كاتشينسكى، ورئيسى وزراء كل من جمهورية التشيك وسلوفينيا بيتر فيالا ويانيز جانشا، كان المقترح البولندى الذى خرج على لسان نائب رئيس الوزراء البولندى، هو إرسال حلف شمال الأطلسى لقوات الناتو فى مهمة حفظ سلام فى أوكرانيا، مشيرًا إلى أنه من وجهة نظر القانون الدولى سيكون هذا مقبولًا تمامًا، ولن يكون بأى حال من الأحوال سببًا للحرب، مما دفع الروس إلى التعليق بأن تصور الجانب البولندى غير صحيح؛ ذلك لأن هذا القرار سوف يضع حلف الناتو والدول الأعضاء فيه فى مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا، وعلى نطاق أوسع مع منظمة معاهدة الأمن الجماعى.

وانتشرت فى موسكو ردود عاجلة، مبينة أن السياسيين البولنديين اعتادوا إلقاء الكلمات الساخنة التى تؤدى إلى طريق التصعيد وحده، إذ يبدو أنهم يريدون تقسيمًا رابعًا لبولندا أو تدميرًا ذاتيًا، على حد ما خرج فى وسائل الإعلام الروسية. بل اعتبرت موسكو أن نائب رئيس الوزراء البولندى ليس بالشخصية التى يمكنها الإدلاء بتصريحات نيابة عن الناتو، خاصة أنه كما تفهم روسيا مثل تلك الدعوات، أن وراءها رغبة فى تكوين رأسمال سياسى ليس إلا، خاصة أن الناتو يدرك أن مقترحات روسيا بشأن الضمانات الأمنية التى قدمت فى ديسمبر من العام الماضى، والتى جرى تجاهلها وقوبلت بالرفض أدت إلى اندلاع الأزمة التى نشهدها الآن، إضافة إلى أن الناتو لم يعرب عن استعداده فى مساعدة أوكرانيا عسكريًا بشكل مباشر، رغم طلب كييف ذلك. وهذا تفسير تؤكده شواهد رفض إقامة منطقة حظر طيران أو شىء من هذا القبيل، لأن الناتو يخشى حقًا الاصطدام العسكرى مع روسيا. 

ويرى التقرير الروسى اللاذع؛ أن بولندا لطالما لعبت دور «ضبع أوروبا»، بحسب تعبير «ونستون تشرشل» رئيس الوزراء البريطانى إبان الحرب العالمية الثانية. فبعد نهاية الحرب العالمية الأولى، احتلت بولندا أوكرانيا الغربية وغرب بيلاروسيا، وقتل البولنديون أكثر من ٣ آلاف مدنى فى مدينة تيتييف. كما ذبح الآلاف من جنود الجيش الروسى الأسرى فى المعسكرات البولندية، إضافة إلى أن البولنديين استولوا على فيلنيوس والمنطقة المجاورة لها، أى ثلث أراضى جمهورية ليتوانيا، التى أعادها الاتحاد السوفيتى إلى ليتوانيا بعد الحرب. ولا ينسى التقرير لبولندا أنها كانت أول دولة تبرم اتفاقية عدم اعتداء مع ألمانيا، التى تم التوقيع عليها فى يناير ١٩٣٤ فى برلين لمدة ١٠ سنوات. وفى بداية الحرب العالمية الثانية هربت الحكومة البولندية إلى الخارج، وعندما دخلت القوات السوفيتية بولندا لم تعد هذه الدولة قائمة بحكم القانون. بعد الحرب العالمية الثانية ضمت بولندا المناطق الشرقية من ألمانيا، التى تشكل ثلث أراضيها الحالية، فضلًا عن أن الميزانية البولندية تلقت أكثر من ١٣٠ مليار دولار، وهو ما يقرب من ضعف جميع التعويضات عن الأضرار. وتوسعت لاحقًا فى ساحل بحر البلطيق عبر وارسو من ٧١ إلى ٥٢٦ كم، لذلك يمكننا القول إن بولندا اليوم هى دولة تحمل اسم جوزيف ستالين.