رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اللى بياكلوا مال النبى

فى التجارة تسعة أعشار الرزق.. هذا ما تعلمناه منذ نعومة أظفارنا.. آمنا بذلك وقدسناه.. واعتبرنا العمل بالتجارة نوعًا من العبادة مثلها مثل تعمير الأرض والزراعة.. لكن فى سنوات «الفهلوة والشطارة» و«اللى تكسب بيه.. العب بيه»، اختلطت المفاهيم حتى لم يعد هناك حد فاصل بين التجارة «والنصب».. بين الشطارة والفهلوة.. بين المكسب وأكل أقوات الناس بالباطل.. وصار من الطبيعى أن يكون من بيننا من «ياكل مال النبى» ورغم أن «الحرام بيّن والحلال بيّن» إلا أن الأسابيع الأخيرة شهدت ما هو أقسى من الخلط بينهما وما يراه البعض فرصة للكسب والحصول على ما يعتبرونه رزقًا.

لا أرمى الحمل على «الناس» كما قد يتصور البعض وأُبرئ الحكومة.. وبالمناسبة الحكومة ليست الوزير أو وكيل الوزارة فقط.. جميعنا أفراد فى شبكة كبيرة اسمها الحكومة.. باختصار يعنى «العلة دى مننا فينا».. فالموظف الذى يعمل بجبهة رقابية ولم ينزل إلى السوق بنفسه ليمنع تغوّل التجار على الناس، لم يمارس عمله الذى يتقاضى عنه أجره.. والذى لم يبلّغ الجهات الرقابية عن أولئك الذين راحوا يستأجرون مئات المخازن البعيدة عن العيون لتكديس السلع لا فرق بينهم وبين ذلك الموظف.

لقد تحركت أروقة كل الجهات المسئولة بعد توجيهات صارمة من الرئيس لضبط الأسواق.. وحاصرت الجهات المعنية بـ«الأمن الغذائى» مخازن أولئك القتلة المتخفين فى زى التجار.. وفى ظرف يومين كان أن عادت أسعار معظم السلع إلى طبيعتها.. باستثناء بعض المحاولات المشبوهة لبعض المتعهدين والموردين والتجار أيضًا.. هؤلاء الذين ظنوا أنها «شدة غربال» ويومين وستعود ريما لعادتها القديمة.. تجار الغلال الكبار وتجار السكر والزيت فاجأتهم الحكومة بتعدد معارضها.. ومنافذ بيع الشرطة والقوات المسلحة.. والمبادرات التى حملت جزءًا كبيرًا من الأزمة على ساعديها وراحت تعرض معظم ما يحتاجه البيت المصرى وبخاصة فى هذه الأيام قبيل حلول شهر رمضان الكريم.

منافذ البيع التى استخدمتها وزارة التموين فى عدد كبير من «الهايبر» أسهمت أيضًا فى وقف تلك الهجمة التى أزعجت الناس فى بيوتهم وجعلتهم يشعرون بالعجز والخوف معًا.

أغنياء الحروب.. والأزمات.. وجدوها فرصة من جانبهم لتكديس ما يظنون أنه باقٍ للأسف.. وهم لا يدركون أن أى زيادة فى أى سلعة ستؤثر حتمًا على باقى الخدمات.. وعلى أسعار سلع أخرى هم لا يملكونها ولا يتاجرون فيها.. وستتأثر بيوتهم وبيوت أبنائهم وجيرانهم حتمًا.

ثقافة «اخطف واجرى» هذه هى التى أعمت بصائر هؤلاء الخلق وأنستهم آدميتهم فراحوا يعبثون ويحشون جيوبهم وأدراجهم بأوراق البنكنوت التى لا يطربهم سوى روائح عرقها.. هؤلاء الذين ينطبق عليهم مثل المصريين الشهير عن «أكل مال النبى والتحلية بالصحابة».. لو سنحت لهم الفرصة مجددًا سيكررون ما فعلوا، وها هم يختبرون قدرة الحكومة وأجهزة الدولة مجددًا.. ففى اليوم التالى لجولة الرئيس الميدانية التى التقى فيها المواطنين يطمئن عليهم ومنهم ويطمئنهم، عاد البعض ليبيع ويشترى بالطريقة التى تريحه، اعتمادًا على عدم وجود ما يسمى التسعيرة الجبرية.. صحيح أن ذلك لم يحدث فى السكر والخبز.. لكنه حدث فى أسعار الزيوت.. والخضروات.. وهذا أمر غريب ومحيّر.

لعبة القط والفأر هذه تحتاج إلى يقظة كاملة من المواطنين قبل الحكومة.. المستهلك قبل رجل الشرطة وأفراد مباحث التموين.. وعلى ذلك الجهاز المسمى «حماية المستهلك» أن يبحث لموظفيه عن «عمل حقيقى» أو فليقم بتغيير نشاطه أو إغلاق أبوابه.. أما تلك الشعب المزعومة.. وغرف التجارة.. فقد اكتشفنا أنها وهم.. هؤلاء لا يهمهم مصالح «الناس»، هم يعملون فقط لصالح أنفسهم، وقد خسروا، أو بالأصح خسر ممثلوهم الذين تحدثوا إلى الفضائيات كثيرًا.. ووضعتهم الجماهير جنبًا إلى جنب فى صف المحتكرين والنهابين وسارقى لقمة الفقير.

أما بعض الموظفين- وأخص موظفى وزارة الزراعة تحديدًا- فأعتقد أن وزيرهم السيد القصير فى حاجة إلى إجراء تحقيق عاجل مع أولئك الذين يتولون أمر المنافذ التابعة للوزارة.. فقد حدث أن قامت العربات التابعة لهذه الوزارة، بعد الإعلان عن طرح كميات كبيرة من منتجاتها من الأرز والبيض وغيرها بأسعار مخفضة، بالبيع فعلًا لدقائق قليلة أمام كاميرات التصوير.. وبمجرد تسجيل عدد من اللقطات لإرسالها للفضائيات، قام الموظفون بالتوقف عن البيع.. وكأن الأمر مجرد لقطة يتم تصويرها فى البرامج وانتهى الأمر.. إنهم لم يخدعوا الوزير ورئيس الحكومة فقط.. لم يخدعوا رؤساءهم.. لكنهم خدعوا أنفسهم أولًا.. فالناس لا ترحم.. ولا تنسى.. فنحن فى أزمة.. العالم كله فى أزمة.. وكانت هذه فرصتهم لكسب الناس.. الذين ظنوا أنهم خدعوهم بهذا الفيلم البذىء.. تلك السيارات التى وقفت فى منطقة الدقى بالقرب من ديوان الوزارة مجرد نموذج لأولئك الذين لا يعنيهم سوى القفز على جثث الجميع ليعيشوا ويمرحوا على جراحات العجزة والمساكين.. ما حدث فى الأيام الماضية فرصة لمراجعة خلل واضح فى عمل الكثير من الجهات فى بلادنا.. فلم تكن هناك أزمة حقيقية فى مصر.. وما حدث «افتعال للأزمة».. ربما يقصدها البعض.. لكن الأغلب أن من أرادوا الاستفادة ولا يزال بعضهم يمارس لعبته القذرة ليسوا أكثر من «تجار حرام» وهؤلاء لا يحتاجون إلى الرحمة.. ولا إلى المسايسة.. بل قطع الرقاب والأيدى جزاء ما يصنعون.. وهؤلاء أبشرهم بأن خطتهم لن تنجح قطعًا فمصر لديها الذين يحمونها ويحافظون عليها وعلى شعبها وهم قادرون على كبح طمع هؤلاء المرابين، والأيام بيننا.