رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المواطن مصرى.. في ذكرى رحيله الـ٩٩.. سيد درويش «الفواعلي» الذي غير مسار الموسيقى العربية

سيد درويش
سيد درويش

إذا كان لكل شخص من اسمه نصيب، فكل شخص له من عصره نصيب أيضًا، وهو ما أثبتته الحياة القصيرة للفنان المصرى سيد درويش، فلم يكن تجديد ألحانه سوى محاولة لتقديم فن مصرى خالص يتخلص من تأثيرات فترة الحكم العثمانى، التى أخرت مصر قرونًا طويلة، ويقدم القضية الوطنية على ما سواها، فى ظل الاحتلال الإنجليزى.

ولد سيد درويش عام ١٨٩٢، بعد ١٠ سنوات فقط من الاحتلال الإنجليزى لمصر، تلك الفترة التى كانت فيها مصر كالقدر الذى يغلى على النار، بمصطفى كامل الذى يتزعم الحركة الوطنية فى الثامنة عشرة من عمره، بينما يواجه الإمام محمد عبده تأثيرات ثلاثة قرون من الحكم العثمانى فى الجامع الأزهر، بأطروحاته المجددة للدين، وتسعى مصر لتأسيس أول جامعة مصرية، ويكتب قاسم أمين كتابه الأول الداعى لتعليم المرأة ومشاركتها فى الحياة العامة، الذى سيصدر بعد عامين فقط من ولادة «درويش».

وصف نفسه بأنه «فيردى مصر».. وضرب مطربًا «حوّر» إحدى أغانيه وعبر عن مصريته بأوبريت العشرة الطيبة

فى سنوات حياته الأولى، لم يكن سيد درويش مختلفًا كثيرًا عمن فى سنه سوى بولعه بالموسيقى والغناء، وهو الولع الذى زاد مع سماعه الاستحسان من شيوخه فى «الكُتّاب» والمعهد الدينى بالإسكندرية، الذى التحق به لفترة قصيرة قبل أن يهجره، لأنه يعلم أن استمراره فى الدراسة يعنى هجره لفنه، إلا أن هذا لم يمنعه من العمل كمؤذن فى أحد مساجد عروس المتوسط.

ولأنه شاب مصرى رأت أمه أن صلاح حاله من حياة المقاهى والانحلال لن يكون سوى بالزواج، تزوج فى سن صغيرة، فلم يكن يبلغ السادسة عشرة حين وجد نفسه مسئولًا عن إعالة إخوته وأمه وزوجته، وبالتالى كان مضطرًا للعمل فى مهن كثيرة، فتارة عامل بناء، وأخرى فى مقهى، وتوالت الأعمال حتى يجد نفسه أمام سليم وأمين عطاالله اللذين يفتحان له الأبواب إلى الملاهى والمسارح والصالات، ليترك «درويش» أعماله دون أن يترك أصحابها، فيغنى لهم الكثير من الأغانى التى تعبر عنهم مثل «شد الحزام».

كان سيد درويش معتزًا بنفسه وفنه، ويروى إدوارد لويس فى دورية «حوار» أن «سيد درويش حين قام أصدقاؤه بالإشارة إلى التشابه بين شكل جمجمته مع جمجمة صاحب (أوبرا عايدة)، قال لهم: (أنا لست أقل من فيردى، فأنا فيردى مصر)»، مشيرًا إلى أنه كان شديد الاعتزاز بفنه، حتى إنه اقتحم أحد المسارح وضرب المغنى الذى «حوّر» إحدى أغانيه.

عَبّر سيد درويش عن مصريته الشديدة بأوبريت «العشرة الطيبة»، الذى كتبه محمد تيمور، فكانت نقدًا سياسيًا اجتماعيًا لاذعًا، واختار له المؤلف صورًا خرافية من عصر المماليك، حتى يتمكن من النقد فى عهد الرقابة، ليصف السلطة فيها بأن لديها «خللًا فى جميع أجزائها الداخلية»، ويصف السياسيين بـ«الوصولية».

ورغم أن الأوبريت لم يلق نجاحًا لدى جمهور «الكازينو» الذى يميل أغلبه للأتراك بسبب العلاقات مع القصر، أو لدماء تركية ما زالت تسرى فى عروق الباشوات، إلا أنه مثّل إعلانًا لـ«درويش» حول نهجه فى الحياة.

وتتجلى مصرية درويش فى معظم أوبريتاته واستعراضاته المسرحية التى بلغت نحو ٢٦ مسرحية، تحتوى على ٢٥٦ لحنًا، منها ١٦٨ تدور حول القضية الوطنية وقضايا المجتمع والطوائف الاجتماعية، تمثل ٦٤٪ من ألحانه المسرحية كلها، وقد تبلغ نسبة ألحانه الوطنية والاجتماعية فى بعض المسرحيات نحو ٨٠٪.

وأحد أسباب تعبير «درويش» عن مصريته فى فنه كانت فى وجود بديع خيرى إلى جانبه، ويروى «خيرى» فى مذكراته كيف التقى سيد درويش الذى كان يتابع زجله فى مجلة «السيف والمسامير»، ونصحه صديقه أحمد شفيق المصرى بالذهاب إلى مسرح جورج أبيض ليشاهد هو ونجيب الريحانى رواية «فيروز شاه»، ليخرجا من ورطة تعثرهما فى تلحين أحد الأوبريتات، لأن المتبع فى الألحان التى تتخلل الاستعراضات أن تقاس على القالب الموسيقى لأحد الألحان الشعبية الشائعة، وكانت الكلمات صعبة على إيجاد لحن شعبى ممكن.

ويقول بديع خيرى: «وذهبت فى الليلة التالية، فإذا بها عمل غنائى مسرحى رائع، ولم أتمالك نفسى قبل أن أنصرف من اقتحام باب الممثلين، وأوقفنى البواب، فقلت له أنا عاوز أقابل سيد درويش، وكان هذا اللقاء هو بداية التعاون بين الثالوث: الريحانى وخيرى ودرويش».

وروى بديع خيرى فى مذكراته قصة طقطوقة «السياس»، التى نادت بالوحدة الوطنية فى مواجهة الإنجليز، التى جاءت ضمن رواية «اش»، وتقول كلماتها:

إن كنت صحيح بدك تخدم مصر أم الدنيا وتتقدم

لا تقول نصرانى ولا مسلم ولا يهودى يا شيخ اتعلم

اللى أوطانهم تجمعهم عمر الأديان ما تفرقهم

ويضيف «خيرى»: «وانتشر اللحن من المسرح إلى الشارع.. وخرجنا جميعًا أفراد الفرقة وسيد درويش ونجيب الريحانى وأنا، فى عربات حنطور نحمل أعلامًا تعبر عن الوحدة الوطنية، وسرنا فى مظاهرة شعبية كبيرة ونحن ننشد اللحن، حتى وصلنا إلى مسجد ابن طولون، حيث التقى الشيخ مصطفى القاياتى القمص سرجيوس وتعانقا».

ويواصل: «واصلنا المسير فى طريقنا إلى الأزهر، وعند تقاطع شارع الخليج بشارع الموسكى انكسرت العربة التى كانت تحمل سيد درويش تحت ثقله إلى نصفين، ووقع سيد على الأرض وهو ينشد لحنه وعلم التآخى فى يده».

استلهم لحن «القُلل القناوى» من نداء بائع عجوة.. وروايات مختلفة حول وفاته

كان سيد درويش هائمًا فى عالم المهمشين الذين جاء منهم، لذلك فإن ألحانه جاءت منهم. ويروى بديع خيرى فى مذكراته، أن «درويش» كان يأتى له بنداءات الشارع لتتحول إلى أغانٍ وألحان خالدة، ومنها طقطوقة «القُلل القناوى».

فقد سمع «درويش» لحنًا عارضًا فى الطريق لبائع عجوة فى بولاق، فاصطحب «خيرى» إلى حيث يقف البائع الذى كان ينادى على بضاعته قائلًا: «على مال مكة على مال مكة.. مال المدينة يا شغل الحجاز».

وظل سيد درويش وبديع خيرى يستمعان إلى هذا النداء حتى خرجا بكلمات لحن جديد استوحاه «بديع» من نداء بائع العجوة، ولم يبرحا مكانهما حتى انتهى «بديع» من صياغة كلمات لحنه المشهور، على نفس قالب اللحن. وفى عام ١٩٢٣، كان سيد درويش يبدأ عقده الرابع من عمره القصير، الذى أراد أن يختمه بمشروع «أغانى الشعب»، وهو اتفاق بينه وبين أميل عريان مخترع البيانو الشرقى، على طبع وتسجيل الأغنيات ذات الطابع الجديد ونشرها. أما الفصل الأخير فى مصرية درويش فكانت وفاته المبكرة، التى كانت أشبه بفيلم هوليوودى يموت فيه البطل قبل تحقيق حلمه أو الحياة العادية لكل المصريين فى ذلك الوقت، حين كان الموت زائرًا متعجِّلًا يخطف المصريين على عجالة قبل أن يعيشوا المشهد الأخير الذى عاشوا أعمارهم بانتظاره. فبعد قرار عودة سعد زغلول من منفاه فى مالطا، اتجه «درويش» إلى مسقط رأسه فى الإسكندرية ليشرف على الاستعراضات التى ستقام فى استقبال الزعيم العائد من المنفى إلى ميناء الإسكندرية، وبعد وصوله الإسكندرية، وقبل وصول «زغلول» بقليل وجدت جثة «درويش» ميتًا قبل أن يبلغ الثانية والثلاثين من العمر.

كانت وفاته المبكرة مثار جدل، فقيل إن الوفاة ناتجة عن جرعة زائدة من المخدرات التى أدمنها فى بداية عمره، كما تم تداول رواية أخرى عن دس مخدرات له انتقامًا منه بسبب مطربة قال إنها لا تصلح للغناء، أما الرواية الأخيرة فهى أن القصر دسّ له سم «الزرنيخ» بسبب عدائه للملك أحمد فؤاد.

لم يحظ سيد درويش بوداع يليق بفنان الشعب المصرى، وإنما بوداع مجموعة صغيرة من أصدقائه ومحبيه، بسبب انشغال أغلب الشعب المصرى باستقبال سعد زغلول العائد من منفاه.