رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البابا شنودة.. بطريرك المحبة عشر سنوات على رحيل بابا العرب

البابا شنودة
البابا شنودة

«مصر وطن يعيش فينا وليست وطنًا نعيش فيه».. هكذا تجسد الوطن مصر فى شخص قداسة البابا شنودة الراحل، فكانت حياته وتعاليمه ومواقفه كلها تنضح حبًا للوطن مصر، «كم قسا الظلم عليك، كم سعى الموت إليك، كم صمدت أمام الاضطهادات وضناك التعذيب، كم جرحت كيسوع بمسامير وشوك»، كانت هذه الأبيات إرهاصات للشاب الأديب نظير جيد عام 1946.

ذلك الشاب الذى توفيت والدته بعد سويعات قليلة من قدومه إلى العالم الدنيوى فى ٣ أغسطس ١٩٢٣، حيث ولد الشاب نظير جيد روفائيل فى إحدى قرى أسيوط وبالتحديد فى قرية السلام التابعة لمركز منفلوط، ونتيجة ليُتم الطفل نظير المبكر لم يجد من يحنو عليه سوى شقيقه الأكبر روفائيل وشقيقه شوقى الذى أصبح فيما بعد الأب المتنيح بطرس جيد وكذلك ٥ من الأخوات الفتيات فى عام ١٩٣٩.

ولد الطفل نظير جيد فى العالم ولم يولد العالم فيه، فمسيرة طفولته وشبابه جعلته يأخذ السماء أمًا له وأصبحت حياة الصمت أبًا له، حينئذ ولد الشاعر والأديب والمفكر بداخله.

وكانت الرهبنة طريقه فاصطحب مصر التى تسكن بداخله وفى مغارته حيث كانت الوحدة والتجرد، فكتب ورنم وسبح وشكر، إلى أن جاء نداء السماء ليكون جليس كرسى الكاروز مار مرقس الرسول، ١٤ نوفمبر ١٩٧١ وأصبح البابا رقم ١١٧ فى تاريخ البطريركية. 

وفى تلك الفترة كان الصراع السياسى والعسكرى على أشده مع الكيان الصهيونى، ولا ينسى التاريخ لهذا الوطنى العظيم مواقفه واستقرائه للأحداث، وكشفه زيف وأكاذيب ذلك الكيان عن أرض الميعاد فى كثير من اللقاءات والتصريحات، مما جعله فى قلب كل عربى وأطلق عليه «بابا العرب». 

فقال بوضوح: إن إسرائيل ليست شعب الله المختار، وأكد أن فكرة شعب الله المختار كانت لفترة معينة أو لغرض معين وانتهت، وإن إسرائيل الحالية ليست شعب الله المختار، وإن اليهود جاءوا إلى فلسطين بوعد من بلفور، وليس بوعد من الله.

واستمرت مسيرة البابا شنودة فى الدفاع عن القضية الفلسطينية وقاوم بشدة أكاذيب المحتل ومنع زيارة الأقباط للقدس رغم كل المعارضة من اتجاهات متعددة قائلًا: «لن ندخل القدس إلا وأيدينا فى أيدى إخواننا المسلمين».

كان موقف البابا واضحًا من الاحتلال الإسرائيلى، كما أنه كان محل احترام من ياسر عرفات الرئيس الفلسطينى الراحل الذى كان يزوره فى العباسية كلما جاء إلى القاهرة.

وحينما حاصرت إسرائيل ياسر عرفات فى رام الله، أقام البابا شنودة فعالية المؤتمر الوطنى الشعبى من أجل تأييد الشعب الفلسطينى، وكان ذلك مساء يوم الخميس ١١ أبريل ٢٠٠٢ فى الكاتدرائية بالعباسية ومعه عدد من أبناء الكنيسة معلنين دعمهم للقضية الفلسطينية وقضية القدس.

كشف البابا شنودة الثالث أيضًا فى ندوة معرض الكتاب منتصف التسعينيات، عن أكذوبة عودة اليهود وقال بوضوح: إن قلنا إنه لا يوجد آيات عن عودتهم سيرصدون عشرات الآيات عن عودتهم، ولكن الحقيقة أنهم عادوا بالفعل أيام سبى بابل وآشور، وهناك ترنموا وبكوا قائلين على أنهار بابل، هناك جلسنا، ولكن عودتهم المزعومة الآن غير حقيقية.

استمرت الكنيسة فى موقفها الوطنى ورفضها التطبيع مع الاحتلال الصهيونى وقاد البابا شنودة الثالث حملة المقاطعة، وكان موقفًا وطنيًا دفع البعض إلى منحه لقب بابا العرب، وذكرت منصة تاريخ الأقباط واقعة تؤكد مكانة ودور الكنيسة قادة وشعبًا فى رفض أكاذيب الاحتلال، حيث فى مايو عام ١٩٩٧ كان البابا شنودة على موعد لحضور اجتماع رؤساء مجالس كنائس الشرق الأوسط بسوريا، ثم يتبعه لقاء مع الرئيس السورى حافظ الأسد.

وكان البابا قبل سفره تلقى دعوة لزيارة اللاجئين الفلسطينيين بمخيم اليرموك ورغم ترتيب جدول الزيارات، لم يتردد ورحب البابا بالدعوة، وفى مساء الخامس من مايو وصل البابا شنودة إلى المخيم وحالت الجموع المحتشدة دون دخول سيارته وسيارات الوفد المرافق، فنزل مترجلًا وسار بموكبه محاطًا بأبناء المخيم وهم يرددون: «بابا شنودة أهلًا بيك.. شعب فلسطين بيحييك».

وهناك ألقى عصام القاضى، الأمين العام لمنظمة طلائع حرب التحرير الشعبية الفلسطينية، كلمة ترحيب بقداسة البابا قال فيها: «يسرنى أن أقول لك يا قداسة البابا أنك موجود فى قلب كل فلسطينى، بل فى قلب كل العرب والمسلمين، إنك بابا الشرفاء فى العالم الذين يناضلون لأجل الحق والعدل.. إنك بابا القدس، بابا العرب»،واستعرض البابا وقتها فى كلمته أوجاع القضية الفلسطينية وختمها بكلمته المشهورة: «لن ندخل القدس إلا مع إخواننا المسلمين»، عندها لم تهدأ القاعة من التصفيق، ثم ختم جولته بالمخيم التى كانت حديث فلسطين والبلاد العربية.

وعندما رحل البابا شنودة وتقديرًا لكشفه أكاذيب الاحتلال نعته الجامعة العربية وكان بيانها: «لقد كان قداسته رمزًا دينيًا كبيرًا وقامة مصرية ووطنية عظيمة حملت هموم المصريين والعرب جميعًا وعاش بإيمانه العميق مدافعًا عن الوحدة الوطنية، وعن القضايا العربية، وعن روح التسامح والمحبة والحوار بين أتباع الديانات السماوية».

رحل قداسة البابا شنودة فى ١٧ مارس ٢٠١٢، ومنذ ذلك الحين وهو يعيش فى وجدان الوطن وضمير القضية الفلسطينية، ويوميًا تعج مواقع التواصل الاجتماعى بكلماته ومواقفه وشعره ومحبته، إن الوطن مصر لا يموت، هكذا هم أبناء الوطن يحيون بسيرتهم داخل ضمير الوطن وتاريخه، سلامًا لروحك يا قداسة البابا شنودة.