رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رشدى واصف حامل أسرار البابا الراحل: «شنودة الثالث» كان واثقًا أن الجيش سيحمى الشعب من مخططات الإخوان وتنبأ بـ«30 يونيو» قبل الجميع

رشدى واصف
رشدى واصف

قال الدكتور رشدى واصف بهمان، رئيس الشمامسة بالكاتدرائية المرقسية فى عهد البابا الراحل شنودة الثالث، إن البطريرك الـ١١٧ فى تاريخ الكنيسة لم يؤمن بأن ما حدث فى ٢٥ يناير ٢٠١١ «ثورة»، بل اعتبره حلمًا جميلًا للشباب سرقته جماعة «الإخوان» واستغلت إياه للوصول إلى الحكم. وكشف «بهمان» الذى عاصر البابا شنودة الثالث فى معظم فترات حياته، ويعد حاملًا لأسراره، فى حوار مع «الدستور» بمناسبة الذكرى العاشرة لرحيل البطريرك السابق، التى تحل اليوم الموافق ١٧ مارس الجارى- عن أن البابا الراحل كان أول من تنبأ بثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣، لثقته فى إخلاص الجيش المصرى، وحفاظه على أرواح المصريين كما فعل من قبل فى ٢٠١١.

■ متى بدأت علاقتك بالبابا شنودة الثالث؟

- عرفت البابا شنودة منذ عام ١٩٧٨، وكنت مثل أى شاب وقتها معجبًا به وبالكلية الإكليريكية، فدخلتها للدراسة بها، إلى أن تخرجت فيها عام ١٩٨٢، ثم رشحنى الدكتور راغب مفتاح كى أكون معيدًا بها لتدريس اللاهوت الطقسى والألحان، ووافق البابا شنودة على ذلك، وأرسل خطابًا للدكتور «راغب» قال فيه: «لو البطريركية لا تستطيع توفير راتبه.. سأرسل له الراتب»، وبالفعل تم تعيينى بقرار حمل توقيع الأنبا غريغوريوس، أسقف البحث العلمى، الذى كان عضوًا فى اللجنة الخماسية المسئولة عن إدارة البطريركية، لأن البابا شنودة كان فى دير الأنبا بيشوى، بسبب قرار عزله من الرئيس السادات وقتها.

دخلت الجيش وخرجت منه فى أبريل ١٩٨٤، وبعدها بعام عاد البابا شنودة إلى منصبه مرة أخرى، وعملت معه كشماس منذ ذلك التاريخ حتى نياحته فى ٢٠١٢، وطوال هذه الفترة لم أتركه لحظة واحدة، وعرض رسامتى ككاهن لكنى رفضت، لرغبتى الاستمرار فى التدريس بالكلية الإكليريكية، وأن أكون بجواره لكى أتعلم منه، فقد كان عقلية غير عادية.

وفى ١٥ يوليو ١٩٩٣ سافرت إلى اليونان لدراسة الدكتوراه فى «القداسات»، وبقيت هناك حتى حصلت على الدكتوراه فى ١٨ يوليو ١٩٩٨، ثم عدت للعمل فى القاهرة، قبل أن أسافر مرة أخرى للحصول على دكتوراه عن «تقديس مياه النيل»، وأخذتها بالفعل فى ٦ سنوات، وبعد عودتى بقيت مع قداسته حتى رحيله، خاصة بعد وفاة الأرشيدياكون «رئيس الشمامسة» الخاص به، الدكتور يوسف منصور، وإصدار المجمع المقدس قرارًا بتعيينى بدلًا منه.

■ ما أبرز ذكرياتك مع البابا الراحل فى هذه الفترة؟

- عندما بدأت الدراسة فى الكلية الإكليريكية وعُينت معيدًا بها، كان البابا شنودة الثالث هو البطريرك ومدير الكلية وقتها، وكانت علاقته مع الجميع واحدة، فلا يميّز شخصًا عن آخر، ولديه نظرة مستقبلية فاحصة، يعرف من خلالها مَنْ يصلح أن يكون كاهنًا ومَنْ لا يصلح لهذا المنصب، لذا توسم فىّ أن أكون كاهنًا أو الاستمرار فى الكلية، لكنى كنت أريد أن أستمر مدرسًا فى الكلية الإكليريكية، ولا أفضل سلك الكهنوت، وهو ما حدث بالفعل.

وتميّز البابا شنودة بأن لديه العديد من المستشارين فى مختلف التخصصات، فى اللغات والطقوس والقانون الكنسى والقانون المدنى والعلوم الكنسية وغيرها الكثير من المجالات، وكان دائم الرجوع إليهم، فلا يتفرد برأيه ويرجع لأخذ آراء هؤلاء المستشارين.

وعلى المستوى الشخصى، بدأت أعمل مع البابا كمستشار لـ«الليتورجيا» والقانون الكنسى، وعندما تكون لديه أى أمور تتعلق بشئون المجمع المقدس أو «الليتورجيا»، كان يكلفنى بمتابعتها، ويسمح لنا جميعًا بأن نقول آراءنا فى مختلف الأمور، واعتدنا كمستشارين على جملة نختم بها المذكرات التى تتضمن آراءنا فى أى موضوع، وهى: «الرأى الأول والأخير لقداستكم».

■ كيف كان يتعامل مع من حوله؟

- تعامل معنا كأب، وكانت له طريقة مريحة فى التعامل، وكان رحيمًا لأقصى درجة مع الجميع، وكل الشعب يعرف مدى الرحمة التى كان يتعامل بها مع الأشخاص، فلم يكن يحب أن يرى أحدًا يتألم، وفى نفس الوقت كان لا يحب أن يكذب عليه أحد، ويفضل أن يتعامل معه الجميع بصراحة شديدة، وكان لا أحد يجرؤ على أن يخبئ أى شىء عنه، وكنا دائمًا على ثقة بأنه يعرف كل شىء عمن حوله.

كما أنه كان يتقبل فكرة الخطأ ويستند فى ذلك إلى حفظه الكتاب المقدس عن ظهر قلب، وحفظه طقوس الكنيسة، لذا كانت تصرفاته كلها لا تخرج نهائيًا عن قانون وطقوس الكنيسة. كان يعرف جيدًا تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وأسهمت دراسته فى قسم التاريخ بكلية الآداب فى إلمامه بالعديد من اللغات وعلى رأسها اليونانية القديمة والإنجليزية. وكان خطيبًا ذا كاريزما عالية فى الحديث، فضلًا عن مهارته الكبيرة فى التشريع المدنى والكنسى على حد سواء. 

■ هل تتذكر أول قرار اتخذه البابا شنودة الثالث فى الكلية الإكليريكية؟

- عانت الكلية الإكليريكية أزمة وفاة العديد من أساتذة الكلية، فى نهاية فترة السبعينيات، ما أثر على العملية التعليمية بها، ودفع القائمين عليها إلى البدء فى تشكيل هيئة تدريس جديدة، عبر تعيين معيدين جدد من الطلاب الأوائل، كما أن البابا شنودة الثالث كلفنى بانتداب عدد من الشباب المدرسين فى الإكليريكية، لدراسة اللاهوت والعلوم الدينية المسيحية خارج مصر، ثم عادوا بعد دراسة علوم اللاهوت والعقيدة إلى مصر، من أجل التدريس فى الإكليريكية.

وأتذكر أيضًا جهوده فى إنشاء فروع للكلية الإكليريكية فى عدد من محافظات الجمهورية ودول أخرى خارج مصر، مثل فروعها فى البلينا والمحرق والولايات المتحدة وألمانيا، بعد أن كانت مقتصرة على الفرع الرئيسى فى القاهرة، كما أنه حدد شروط الالتحاق بها وقتها، التى تضمنت: الحصول على مؤهل عالٍ، بعد أن كانت تقتصر على شهادة الثانوية العامة فقط، إلى جانب ضرورة أن يكون الملتحق أرثوذكسى الطائفة، فى ظل أن كل طائفة لها الكلية والمعهد الدينى الخاص بها.

■ وماذا عن قراره بالتحاق الفتيات بالكلية الإكليريكية؟

- البابا شنودة الثالث أول من سمح للفتيات بالالتحاق بالكلية الإكليريكية، إيمانًا منه بحقهن فى التعليم الدينى واللاهوتى، وشهد عهده تعيين أول معيدة فى الكلية، وهى الدكتورة نجوى الغزالى، وبصفة عامة، كانت علاقته بالطلبة جميعًا، علاقة أب بأبنائه، كان معلمًا لهم ويعاملهم كمرشد وأب يحرص على مصلحة أبنائه.

■ كيف كانت علاقته مع الطوائف المسيحية الأخرى؟

- علاقته كانت طيبة بجميع الطوائف المسيحية، وقامت على المحبة والود طوال فترة حياته، وامتلك «كاريزما» خاصة جعلته قريبًا من قلوب جميع الأقباط، خاصة من خلال عظة الأربعاء التى كان يلقيها بشكل أسبوعى وجذبت الأقباط للاستماع إليها، سواء بالحضور من القاهرة أو مختلف المحافظات، أو مشاهدتها عبر القنوات الفضائية المسيحية، التى صارت من الأعلى مشاهدة، بسبب محبة الأقباط لسماع البابا شنودة، وإجاباته عن أسئلتهم التى يوجهونها إليه فى شئون الحياة الروحية أو الاجتماعية على حد سواء.

■ .. وعلاقته بالفقراء «إخوة الرب»؟

- البابا شنودة كان رحيمًا بـ«إخوة الرب» فى كل الأوقات، ولا يميّز بين مسيحى وغير مسيحى فى العطاء والرحمة بالفقراء، وخصص الخميس يومًا لـ«لجنة البر»، التى كان يتردد عليها الآلاف، لطلب المساعدة ماديًا فى شئون حياتهم.

واعتبر البابا أن المال الذى يتبرع به الأغنياء للكنيسة منحة للفقراء من الله ومن هؤلاء الأغنياء، ويجب أن تعود إلى الفقراء والمحتاجين، وكان يدعم الكنائس الفقيرة، سواء بالمساعدة ماديًا لأبنائها الفقراء، أو المساعدة فى بنائها وتشييدها.

■ هل وضع البابا شنودة «بروتوكولًا» خاصًا للكرسى البطريركى فى عهده؟

- البابا شنودة كان شخصية ذات هيبة، وحرص على أن يكون لكل مقام مقال، فنجده فى البطريركية بهيبة البطريرك صاحب القرارات الحاسمة، وفى الدير راهبًا ببساطة الحياة الرهبانية وهدوئها وحرصه على الجلوس بمفرده فى قلاية للخلوة الروحية.

وبالنسبة للأعياد، حرص على استقبال المهنئين من شخصيات عامة وقيادات فى الدولة، صباح ليلة ويوم العيد، واهتم بأن يكون المقر البابوى مفتوحًا لكل الأقباط خلال هذه الفترة.

واتبع نهجًا معينًا فى سيامة الأساقفة، قائمًا على منح الشعب القبطى فى أى إيبارشية خالية من أسقف توفى أو إيبارشية جديدة، حق اختيار راعيهم الأسقف، فيستمع لآرائهم حول سيامة أسقف جديد لهذه الإيبارشية، ومن محبتهم له كانوا يفوضونه لاختيار الأسقف المناسب لهم، مع سعيه بالتزامن إلى التعمير الروحى فى الإيبارشيات، حتى إنه ترك المجمع المقدس بـ١١٠ أساقفة ومطارنة، وهو ما يسير على دربه البابا تواضروس الثانى.

■ ما أبرز الأزمات التى واجهتها الكنيسة فى عهده؟ ولماذا كان يلجأ للذهاب إلى الدير عند حدوثها؟

- أبرز هذه المشكلات تعرض كنيسة فى العمرانية لاعتداء من بعض المتطرفين، خلال السنوات الأخيرة من حياته، وتعرض شباب الأقباط للاعتداء وقتها، وضايقه هذا الأمر كثيرًا، وعلى الرغم من تعبه الشديد بسبب غسيل الكلى أسبوعيًا، أصر على عدم استكمال علاجه فى القاهرة، وسافر للصلاة فى الدير، لـ«يضع هذه الأزمة أمام الله»، واثقًا فى أن الحل سيأتى من عنده، وبالفعل عقب ذهابه إلى الدير، تدخل الدكتور مصطفى الفقى لحل هذه المشكلة، وأبلغه بأن الرئيس الأسبق حسنى مبارك يريد لقاءه، وهو ما حدث وقتها بالفعل. 

وذهابه إلى الدير كان هدفه الأساسى الصلاة، لأنه عاش بمبدأ أن المشكلة التى ليس لها حل، حلها بالصلاة عند الله.

■ هل أيّد البابا شنودة ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١؟

- لم يؤمن البابا شنودة بأن ٢٥ يناير «ثورة»، ورأى أنها عملية تخريب لمصر استغلها «الإخوان» لنشر الفوضى وجنى ثمارها، وهو ما حدث بالفعل وأثبت وجهة نظره تلك، لكنه فى الوقت ذاته، اعتبر أن الشباب المشاركين بها كانوا حالمين بمستقبل أفضل لمصر، لكن أحلامهم تلك سرقتها «الإخوان».

■ كيف كان يرى جماعة «الإخوان» إذن؟

- «الإخوان» لم تحب البابا شنودة، وفى الوقت الذى كان الجميع يقول: «سيتم تسليم السلطة إلى الإخوان»، كان يدرك البابا شنودة أن الجيش المصرى لن يترك المصريين وسينقذهم، وهو ما حدث عقب رحيله فى ثورة ٣٠ يونيو.

فقد خرج الشعب المصرى على الجماعة، بعد عام واحد من حكمها البلاد، الذى كان سببًا فى كشف وجهها الحقيقى أمام المصريين، ولولاه ما انكشفت أفعال التنظيم ونيته فى تخريب مصر، وهو المشهد الذى أدركه البابا شنودة مبكرًا قبل الجميع، وتحقق على أرض الواقع بعد رحيله، فقد كان واثقًا فى إخلاص الجيش المصرى، وأنه كما حمى المصريين فى الشوارع خلال «٢٥ يناير»، لا يمكن أن يترك مصر تسقط كما خططت جماعة «الإخوان».

■ هل كان يحلم بحلم معين للكنيسة فى عهده؟

- عاش لأجل حلم أن تصبح الكنيسة القبطية الأرثوذكسية معروفة فى كل دول العالم، وهو ما سعى جاهدًا لتنفيذه طوال فترة خدمته كبطريرك، من خلال تأسيس مئات الكنائس فى جميع دول العالم.

كيف تلقيت نبأ وفاة البابا شنودة الثالث؟ 

وما جهودكم للحفاظ على تراثه؟

- كان خبرًا حزينًا على قلوبنا، لكن قبل وفاته كنا فى حيرة شديدة، بين رغبتنا فى بقائه معنا، وطلب الراحة له بعد إصابته بالعديد من أنواع السرطان ومعاناته من أزمة صحية شديدة فى الكلى قبل رحيله. وتراث البابا شنودة الثالث سيظل خالدًا بفضل جميع محبيه، الذين عملوا بجهد للحفاظ عليه، من خلال مركز حفظ تراث البابا شنودة الثالث فى كنيسة السيدة العذراء مريم بالزيتون، الذى وثّق جميع عظاته ومؤلفاته ومقالاته المكتوبة فى الصحف أو مجلة الكرازة، ويظل تراثه الكنسى محفوظًا ولم تهدر منه كلمة، وهو ملك الكنيسة والشعب، لكن تحويله إلى شكل رقمى يحتاج إلى وقت وجهد كبيرين للغاية، وهو ما نتمنى تنفيذه والعمل عليه خلال الفترة المقبلة.