رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

استحالة الدولة الدينية

قد يبدو لأول وهلة أن الدولة الدينية ستكون جنة موعودة على الأرض كما يتخيلها البسطاء وحسنو النية والموهومون بوجود تجارب لدول دينية سابقة مثالية تشبه اليوتوبيا، كما صدّر لهم ذلك المروجون، لكون الدولة التى تقوم على أساس الفكر الدينى وتلتزم بحذافيره ستؤكل الجماهير والشعوب، من فوق رءوسهم وتحت أرجلهم، لبنًا وعسلًا وشهدًا.

وإذا قامت الدولة الدينية المزعومة، وفشلت فى تحقيق السعادة والرفاه، بل حدثت عوضًا عنها كوارث ومصائب، فلن يتم التشكيك أبدًا فى منهج الدولة الدينية، بل سيتم اتهام رعايا الدولة الدينية بعدم الإخلاص والتنفيذ لتعاليم منهجهم المتخيل.

فمنهجهم المزعوم فوق التجربة الإنسانية حاكم عليها لا محكوم بها، وأن الرعايا لم يرتقوا لمستوى المنهج الذى وضعه فى حقيقة الأمر بشر عبر عصور طويلة، ولو نسبوه للمطلق والسماء، فالتجربة البشرية تخبرنا بأنه حتى لو كان النص المؤسس لأى نظام لاهوتى أو دينى منسوب للسماء فإن هذا النص يظل محتاجًا لترجمان يفسره وينزله على واقع البشر، ويحوله لنظام قانونى واجتماعى وسياسى واقتصادى.

ويواجه بعد ذلك أدعياء مثالية الدولة الدينية المزعومة بمعضلة كون منهاج ومثال دولتهم المزعومة ضبابيًا غامض المعالم، له ألف تأويل وتفسير، والخلاف فيه أشد من الخلاف بين أشكال الدولة الحديثة الناجحة فى كثير من البلدان، ولكنه اختلاف ليس قائمًا على النافع والأقل نفعًا والضار والأقل ضررًا، بل هو قائم على خلافات لاهوتية ومذاهبية عتيقة فى غالبها، وفرق دينية يُكفّر بعضها بعضًا، ويبدِّع بعضها بعضًا، ثم بعد الصراعات اللاهوتية تأتى صراعات حول مصلحة الرعايا أو لا تأتى، وقبل كل هذا صراعات وتأويلات الخواص من أهل الحل والعقد.

ثم رغم كل ذلك نجد النماذج التاريخية للدولة الدينية فى الماضى القريب والبعيد سببت فتنًا وجرائم كبرى وصغرى ووسطى بلا عدد، وأدت كذلك إلى الفتك بالمختلف، فالمختلف هو الشيطان أو عميل الشيطان، وهو خارج عن الدين والثوابت.

وهناك جريمة تقسيم الدولة الدينية، فى تاريخنا، المواطنين إلى عوام لا عقول لهم، ولا يعرفون الشمال من اليمين، وخواص يزعمون أنهم على علم عميق، ولعلهم أجهل من عوامهم، ولا يعرفون من موروثاتهم إلا أمانى، لا تغنى البلاد ومن عليها.

فالعامى عند أدعياء العلم ليس صاحب رأى ووجهة نظر، ولا يلتفت إليه أصلًا، والخلاف بين العوام، وهم غالبية الرعايا، وطائفة الخواص المدّعين وفوقهم راعيهم الأوحد وراعى البلاد، هم فقط الذين يملكون حق التفسير والتأويل وفك شفرة النصوص القديمة الموروثة، وكأنها شفرة دافنشى الغامضة، وهؤلاء الأدعياء يزعمون فهم الواقع المحلى والدولى الذى يأتى فى مرتبة ثانية بعد مهمة فك شفرة القديم.

والكارثة الكبرى بعد كل ما ذكرنا فى الدولة الدينية أنها لا تعرف فكرة المواطنة والأخوة والمساواة بين أبناء البلد الواحد، فهناك تمييز بين الرعايا بحسب الأديان والمذاهب، وتمييز بحسب النسب والجنس كذلك، فالدولة الدينية عنصرية بجدارة تريد البطش بكل من يخرج عمّا تدعيه من ثوابت موروثة، فحتى لو خرج لهم نبى كريم أو مفكر مبدع حر لن يقبلوه، وسيحاكمونه بقوانينهم العتيقة، ويصلبونه كما صلبت وقتلت أورشليم الأنبياء المتنبئين.

فلكل ما سبق يستحيل فى القرن الحادى والعشرين إقامة دولة دينية إلا على أنقاض العقلانية وأشلاء الإنسانية.

تلك الإنسانية التى ترى غالبية سكان كوكبنا منها أن حديث الدولة الدينية ما هو إلا حديث خرافة وضلالة وظلم للبشرية كلها.