رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى محبة عبدالوهاب.. روح القاهرة فى جملة موسيقية

قبل أيام قليلة، مرت ذكرى ميلاد موسيقارنا الكبير محمد عبدالوهاب، وهى الذكرى التى أعترف بأننى لا أستطيع العبور عليها دون احتفال، ودون لوم للنفس، أو مراجعة للعديد من القرارات التى اتخذتها فى حياتى، فلعله من المناسب أن أعترف فى هذه المناسبة بأننى لوقت طويل، لم تكن علاقتى بموسيقى محمد عبدالوهاب بحالة جيدة. لم يكن ذلك بسبب ما تناثر حوله من اتهامات بالسرقة، والسطو على جمل موسيقية غربية وتضمينها فى ألحانه، فقد رد عليها جميعًا فى حينها، وأسكت الأصوات التى تناولت الأمر فى حوارين تليفزيونيين، أحدهما مع الإعلامى طارق حبيب، والثانى مع الإعلامية ليلى رستم، ثم لم يلتفت إليهما فيما بعد، وعندما رحل الجميع، ظلت موسيقاه باقتباساتها، وجمالها، وفتنتها الآسرة.

كانت ليلى رستم أول من تجرأ على طرح الموضوع أمام الموسيقار الكبير، فقالت له على استحياء فى حوار تليفزيونى عام ١٩٦٦: «إن البعض يلمح إلى اقتباس الأستاذ عبدالوهاب من بعض الألحان العالمية»، فكانت المفاجأة التى بادرها هو بها، برد أكثر جرأة ووضوحًا: «قولى كمان سرقة عبدالوهاب لألحان الآخرين».

وتابع: «إنك تاخدى جملة موسيقية وتحطيها، ده يبقى اسمه نقل، ووفقًا للمعيار الذى وضعته جمعية الموسيقيين لتقدير حالات السرقة اشترطت نقل أربعة موازير كاملة، ده خطأ، لأن العبرة بصدارة الحتة، وبشخصيتها، فمن الممكن أن تتكون الحتة من مازورة أو اتنين، لكن شخصيتها تحسسك إنها متاخدة كاملة.. أنا عملت كده فى بداياتى وتحديدًا فى (يا ورد مين يشتريك)، اللى خدتها من بيتهوفن، و(أحب عيشة الحرية) اللى خدتها من فلكلور روسى، كان لازم أقول أنا اقتبستهم من مين، ودى كانت حركة بايخة منى!».

على أنه لم يعد إلى تلك الجرأة والوضوح فى حوارات أخرى، فكانت ردوده لا تزيد على بعض التوضيحات العامة، منها مثلًا قوله: «الفن تفاعل مش عزلة، والفنان المتطور ما يصحش إنه يسجن نفسه جوا خواطره، لازم يفتح أبوابه لكل التيارات الفنية، بيلتقطها ويهضمها ويضيف عليها، وبعد كده يطلعها لنا فى ثمرة جديدة، زى الابن، ما بياخد من الأم والأب، لكن فى الواقع هو فى ذاته مخلوق جديد، وزى عود الورد وعود البرسيم مثلًا، الاتنين بيتسقوا من مية واحدة، وعايشين على أرض واحدة، ومع ذلك عود الورد بيهضم غذاءه ويطلع عود ورد، والثانى عود برسيم، وأنا فى رأيى إن الفنان لازم يتزود من كل ما حواليه، ويأخد ده جواه ويهضمه، والمهم فى ذلك إنه يضيف إليه شىء من نفسه، ويطلعه لنا فى ثمر جديد بعد كده تسميه اقتباس، نسميه تأثر، نسميه زى ما نسميه، لكن ده هو الفن فى نظرى».

وختم كلامه بتوضيح أظن أن كثيرين ممن اتهموه بالسرقة لم يحاولوا مناقشته أو الإصغاء إليه، فقال: «عن نفسى، فأنا أسمع موسيقى غربية كتير جدًا، لأن سماع الموسيقى للموسيقى زى الكاتب ما يقرأ، يعنى لما الكاتب ما يقراش لغيره ما يتفتحش، لازم يقرأ، وحتمًا هذه القراءة حترسخ منها أشياء هو يحبها».

والحقيقة أن اختصار مسيرة موسيقارنا الكبير محمد عبدالوهاب فى عدة ألحان، أو جمل موسيقية، هو شكل من أشكال الخلل فى القياس، أو التجنى المتعمد، وغير المفهوم.. ولعله من المناسب هنا أن ألتفت إلى العبارة التى فتحت بها هذه المقالة، والتى لم تكتمل بعد أن غلبتنى شهوة الاستطراد فى توضيح ردوده على قضية الاقتباس، والتأثر.. فلم تكن علاقتى بموسيقى عبدالوهاب بحالة جيدة لفترة طويلة، لسبب لا أعرف الآن من أين جاء، ولا لم؟ فقد كنت أظن أنها موسيقى بلا روح، لا تهتم بغير الإيقاع، والزخارف الموسيقية، لكننى مع الوقت، والغوص فى ذلك الكم المهول من الألحان التى تركها لنا، أدركت كم كنت متسرعًا فى الحكم، واتخاذ القرار، فربما غلبت الزخارف بعض ألحانه، وربما سيطر الإيقاع على بعضها، وربما تضفرت بعض الجمل الغربية فى أعماله، لكن المؤكد أنك لن تعدم رؤية بائع ينادى على بضاعته فى الكثير والكثير من جمل عبدالوهاب الموسيقية، ستجد حوارى القاهرة ماثلة قدامك، بباعتها المتجولين، وأصحاب الدكاكين، والمارة، والعابرين، سترى بأذنيك بنات البلد يزلزلن الحوارى والشوارع بخطواتهن الرشيقة الواثقة، وهن يتجولن بين المحلات، ستجد الحضرة الصوفية، وحلقات الذكر، وجلسات الاستماع إلى آيات الذكر الحكيم، ستلمح النيل ينساب رقيقًا تحت عينيك، وعلى طول المدى، وستدرك روح القاهرة، ونبضات ليلها وصباحاتها المبهجة.

ليس عليك إلا أن تترك روحك تنساب مع موسيقى عبدالوهاب، لترى ذلك كله وأكثر، ولتدرك أنه كان لدينا موسيقار عظيم، أنصت بكل جوارحه لموسيقى الحياة فى مصر، وفى غيرها، فتشبعت بها روحه، وأعادتها لنا عذبة، نقية، من غير سوء.