رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الموت الأكثر سوادًا

 

على امتداد اثنى عشر فصلًا، غير المقدمة والخاتمة وقائمة المراجع، أوضح جوديث ميلر وستيفن إنجلبرج وويليام برود، فى كتاب «الجراثيم: السلاح الأخير»، كيف أنفقت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى السابق، أموالًا طائلة، خلال الحرب الباردة، لتطوير أسلحة بيولوجية، وكيف أدى ذلك إلى إنتاج مخزون ضخم من الجراثيم والفيروسات، وتخريج أو تفريخ عدد كبير من العلماء القادرين على تطويرها وتعديلها حسب الطلب. 

عشرات الكتب ومئات الدراسات وآلاف المقالات، تضمنت تفاصيل ومعلومات أكثر، يجرى استدعاؤها مع ظهور أى وباء. وعليه، انتشرت منذ الأيام الأولى لظهور فيروس «كورونا المستجد»، نظريات، أو شائعات، حول أصل الفيروس، وتبادلت الولايات المتحدة والصين الاتهامات بشن حملات لتشويه السمعة. وبينما كان الرئيس الأمريكى السابق، دونالد ترامب، ووزير خارجيته، مايك بومبيو، يصفان «كورونا» بالفيروس الصينى، كتب تشاو لى جيان، المتحدث باسم الخارجية الصينية، فى حسابه على تويتر، أن جنديًا أمريكيًا حمل الفيروس إلى مدينة ووهان الصينية. ووقتها، استدعت واشنطن السفير الصينى للإعراب عن احتجاجها على استخدام بكين قنوات رسمية، لإلقاء اللوم على الولايات المتحدة، أو اتهامها بالوقوف وراء ظهور الفيروس.

هذه النظريات، الشائعات أو الاتهامات، تجددت هذه الأيام، مع إعلان وزارة الدفاع الروسية عن اكتشافها مشروعًا بيولوجيًا عسكريًا تموله الولايات المتحدة فى أوكرانيا. وتزايدت الشكوك، التكهنات أو الاستنتاجات، إثر قيام السفارة الأمريكية فى كييف بحذف كل الوثائق المتعلقة بالمختبرات البيولوجية الأمريكية من موقعها الرسمى على شبكة الإنترنت، التى أظهرت أن وزارة الدفاع الأمريكية تسيطر، أو كانت تسيطر، على ٢٦ مختبرًا بيولوجيًا فى أوكرانيا، وتقود جميع الأنشطة البحثية فيها. كما ظهرت تقارير ووثائق فى وسائل إعلام عديدة، تشير إلى سيطرة الولايات المتحدة على ٣٣٦ مختبرًا بيولوجيًا فى ٣٠ دولة أخرى.

معاهدة منع إنتاج، تطوير وتخزين الأسلحة البيولوجية، التى تم توقيعها فى ١٠ أبريل ١٩٧٢، ودخلت حيز التنفيذ فى ٢٦ مارس ١٩٧٥، جاءت بعد جهود مطولة لوضع آلية جديدة مكملة لبروتوكول جنيف، الصادر سنة ١٩٢٥، الذى حظر استخدام الأسلحة الكيميائية والبيولوجية، لكنه لم يمنع تطويرها وحيازتها. غير أن غياب نظام رسمى للتحقق من الالتزام بالمعاهدة الجديدة، معاهدة ١٩٧٢، حد من فاعليتها. 

المهم هو أن المادة السادسة من هذه المعاهدة تنص على «مطالبة مجلس الأمن بالتحقيق فى أى خرق للمعاهدة». وهذا هو ما فعلته موسكو، وعقد المجلس، بناء على طلبها، جلسة طارئة، أمس الأول الجمعة، أكد خلالها فاسيلى نيبينزيا، مندوب روسيا الدائم، أن لديهم وثائق تؤكد وجود برنامج بيولوجى تنفذه أوكرانيا بعلم الولايات المتحدة، عبر أكثر من ٣٠ مختبرًا، كما أكد أن الجيش الروسى كان على علم بمشروع «يو- بى ٤» الذى كانت تنفذه أوكرانيا ويهدف إلى نشر الأمراض المعدية عبر الطيور المهاجرة. 

فى المقابل، ردت ليندا توماس جرينفيلد، مندوبة الولايات المتحدة، بأن «موسكو تحاول بث الشائعات والأكاذيب»، وقالت إن «أوكرانيا لديها الحرية فى استخدام مختبراتها»، وإن بلادها تساعدها على ذلك بشكل آمن. وعلى الخط، دخلت باربرا ودورد، مندوبة بريطانيا، واتهمت موسكو باستغلال مقعدها الدائم فى مجلس الأمن لنشر الأكاذيب. والشىء نفسه فعله نيكولاس دى ريفيير، المندوب الفرنسى، الذى اتهم روسيا باستخدام التضليل كسلاح من أسلحة الحرب. ثم نفت إيزومى ناكاميتسو، الممثلة السامية لشئون نزع السلاح، علمها بوجود برامج أسلحة بيولوجية بأوكرانيا، زاعمة افتقارها إلى آلية متعددة الأطراف، للتحقق من ذلك.

.. وأخيرًا، يشير مصطلح «الموت الأسود»، إلى وباء الطاعون، الذى اجتاح أوروبا منتصف القرن الرابع عشر وقتل نصف سكان القارة، خلال أربع سنوات. وفى كتابهما «عودة الموت الأسود»، الصادر سنة ٢٠٠٤، توقعت سوزان سكوت وكريستوفر دنكان، أن يبدأ شخص ما فى مكان ما بالعبث بفيروس خارق، معدل وراثيًا، أشد فتكًا، وأكبر قدرة على العدوى من الطاعون، عن طريق العدوى الرَّذاذية، واصفين ذلك بأنه «لعب بالنار»، ونتيجة سلبية للثورة التكنولوجية الحيوية، التى حدثت فى أعقاب الاكتشاف المصيرى للبنية الحلزونية المزدوجة للحامض النووى: خريطة الحياة، التى قد تكون هى نفسها خريطة للموت.