رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عاشقة الصحراء.. المصرية التى وصلت للعالمية

 

عرفتها منذ سنوات طويلة يصعب عدها، ومنذ التقيت بها للمرة الأولى أدركت أننى أمام طراز نادر وفريد من المصريات، فقد كانت فى بداية مشوارها فى صعود سلم النجاح فى مجال نادرًا ما تقتحمه المرأة، وكنت أنا أيضًا فى بداية مشوارى مع دنيا الإبداع والصحافة، وذلك فى نهاية السبعينيات، وتحديدًا سنة ١٩٧٩. وتحدثنا معًا باستفاضة وبصراحة عن أهدافنا فى الحياة وأحوالنا المعيشية وأهمية النجاح لكل منا، ووضعنا تصورات لاستكمال طريقنا، كل منا فى مجاله، رغم إدراكنا تحديات ومصاعب النجاح فى كلا المجالين.. هذه المصرية الاستثنائية المبدعة اسمها شهيرة فوزى، وعندما تعارفنا كانت فى بداية إعداد رسالة الماجستير فى علم الإنسان، وقررت هى أن تقتحم الصحراء الشرقية فى مصر على الطبيعة، فذهبت لتدرس أساليب معيشة قبائل العبابدة والبشارية الذين يعيشون فى الصحراء الشرقية لمصر وجنوب أسوان، وهم يسكنون فى أحضان الأودية الجبلية، ولهم عادات وتقاليد خاصة بهم ونمط فى حياتهم الصحراوية.. وهم يرعون الإبل والأغنام، وكانوا حينذاك يتحدثون لغة مختلفة عن اللهجة المصرية، ولهم مأكولات تعد وتطهى بأساليب تتناسب مع بيئتهم، فهم يضعون المشويات على الزلط فوق الرمال بعد تسخينه.. كما أن لديهم الأزياء الخاصة بهم التى تناسب طبيعة الجو الصحراوى.. وهى جلباب رجالى واسع وفضفاض، وجلاليب نسائية فضفاضة، وذلك حتى لا تلتصق بأجسادهم رجالًا كانوا أم نساء.. وحرصت شهيرة على أن تقترب منهم لتدرس أساليب حياتهم، ولهذا تعلمت لغتهم، وانتهى بها الأمر إلى المعيشة وسطهم وبينهم، كما أحبت طبيعتهم البسيطة الواضحة، وأحبت أيضًا حياة الصحراء، رغم ما بها من مخاطر وصعوبات، ورغم ما واجهته حينذاك من مصاعب من بعض المسئولين الذين رفضوا مساعدتها، أو مد يد العون لها.. وهنا قررت أن أكتب أول مقالاتى عنها وأطلقت عليها «عاشقة الصحراء».. حينذاك فى سنة ١٩٨٠ حينما رأيتها بجلباب صحراوى جميل وغريب وبتسريحة شعر بضفائر رفيعة طويلة ومجدولة قامت نساء قبائل العبابدة والبشارية بتصفيفها لها فبدت فى نظرى واحدة منهن كما رأيتها فى ذلك اليوم.. إذ تعلمت كل شىء عنهم، وأحبت هذه الحياة لدرجة التوحد معها.. وهكذا تيقنت أن شهيرة فوزى ستكمل طريقها فى الحياة وسط الصحراء لسنوات مقبلة، وأنها من المؤكد ستنجح فى الحياة الصعبة لأنها أحبتها.. فأصبحت جزءًا منها شكلًا وموضوعًا وأسلوبًا فى المعيشة مماثلًا تمامًا لأهل الصحراء الشرقية.. وببساطة تامة تحولت شهيرة فوزى إلى مصرية من أهل الصحراء، بكل ما لديهم من سمات وعشق لأسلوب الحياة البسيطة وتأقلم مع طبيعة الحياة الشاقة بها.. وأدهش الجميع من حولها اختيارها هذه الحياة الشاقة، وعزمها على الحياة وسط الصحراء معهم، إذ تخلت عن كل مباهج الحياة كامرأة من المدينة، ورغم أن والدتها ووالدها لم يستسيغا أنها تعيش حياة البدو بعيدًا عنهما، ورغم أن بعض المسئولين لم يستسيغوا أن تعيش فتاة من أهل المدينة وسط قبائل صحراوية بعيدة عن المدنية، إلا أنها تصدت لمعارضيها وقررت أن تفعل ما آمنت به.. وهكذا قررت أن تكون لها ريادة فى هذا المجال، وبدأت تساعدهم فى تعلم اللغة العربية، ثم انبهرت بأشغالهم اليدوية التى كانت مميزة ومريحة وجميلة، فقررت أن تحول ذلك إلى مصدر رزق لنساء هذه القبائل.. وبدأت تساعدهن فى إنتاج أشغال يدوية وحلى مستوحاة من تراثهن الصحراوى، ثم بيعها.. وهكذا ولدت لديها فكرة تصميم الحلى الخاصة بأهلها من الصحراء الشرقية، ومن وحى ألوان الصحراء الترابية، كما اتجهت أيضًا إلى تصميم الجلاليب الصحراوية المصنوعة من إبداعها المستمد من وحى الصحراء وسمات هذه القبائل وبأيدى نساء العبابدة والبشارية.. والمدهش أنها قد نالت إعجاب وانبهار كل من رآها.. ثم كان يتم بيعها كمصدر رزق لهن ولأسرهن.. وتحولت الموهبة والدعم لأهل القبائل إلى عمل إبداعى رفيع المستوى، وإنتاج مصرى بذوق عال وبديع، وأطلقت على منتجاتها اسمًا مميزًا هو «صحراء»، حيث استعانت بموهبتها الفريدة فى إنتاج حلى وأزياء صناعة مصرية ومصنعة بطريقة أهل الصحراء، حيث كان كل شىء يتم يدويًا.. فيتم فى البداية غزل القطن المصرى على النول، ثم تصميم الجلاليب ذات الطابع الصحراوى، ويتم رسم لوحات فنية عليها من وحى الطبيعة ومن وحى وجوه بنات الصحراء من قبائل العبابدة والبشارية.. ثم حولت فكرتها إلى إنشاء مصنع كبير للأشغال اليدوية ينتج ملابس وأزياء وحلى من تصميمها ومن تنفيذ نساء من أهل الصحراء.. وتطور عملها واتسع إلى أن ذاعت شهرتها فى مصر، وافتتحت عدة متاجر بها وفروع لإنتاج مصنوعات رائعة، وتقديم منتج مصرى صميم وفريد فى روعته وجماله، ثم بدأ صيتها يصل إلى خارج مصر، وقدمت عروضًا ناجحة ومبهرة لأزيائها وحليها باسم «صحراء»، لتؤكد أن مسيرة الإبداع قد تكون صعبة وشاقة وطويلة إلا أن د. شهيرة فوزى ليست كغيرها من النساء، فلديها تجربة فريدة يندر أن تكون لأحد غيرها. وأتذكر أننى نشرت أيضًا قصة من وحى حياتها الاستثنائية، تم نشرها على صفحة كاملة بصحيفة الأهرام اليومية بعدد الجمعة فى سنه ١٩٨٤ بعنوان «الظلال قد تحرق مرتين».. وأصبحنا صديقتين مقربتين لسنوات طويلة تصل إلى ما يقرب ٤٠ عامًا، يجمع بيننا الإخلاص فى العمل، والرغبة فى النجاح وعشق مصر.. وظللنا صديقتين نلتقى ونتآزر ونتواصل على محبة وأخوة نادرة أصبحت فى زمننا هذا.. وكنا نمضى ساعات طويلة نتحدث عن تجاربنا وإبداعنا وأسرنا وبلدنا، ولم نتخل يومًا عن أمرين فى حياتنا.. حبنا لأسرتنا، وحبنا لعملنا، وإبداعنا وطموحنا فى استكمال مسيرتنا العملية والأسرية بنجاح، وقطعنا على أنفسنا عهدًا بأن نتآزر دومًا طوال مشوار الحياة، وفى ٢٠١٩ فكرت أن أساعدها فى عرض إنتاجها الفريد المصرى المبهر لتراه أكبر مجموعة من نساء المجتمع المصرى الراقى، فأقمت معرضًا لأزيائها الصحراوية الفريدة فى جمالها فى سنة ٢٠١٩ خصص دخله للخير لدعم مؤسسة ياسمين السمرة، التى ترؤسها صديقتى سيدة العمل الاجتماعى هناء السادات، لدعم ومساعدة الأكثر احتياجًا من مرضى انحلال الجلد الفقاعى، وهو مرض نادر، لكنه موجود فى مصر. ولقى معرض الأزياء نجاحًا منقطع النظير، وساعدتنى فى تنظيمه المهندسة وسيدة العمل الاجتماعى سها شمس، وأضفى هذا عليها البهجة، وسعدت أننى أدخلت على قلبها البهجة، وعلى جسدها المتعب بعض الفرحة.. ففى السنوات الـ٩ الأخيرة وقعت على أرض المصنع فكسر مفصلها وتم علاجها بشكل خاطئ، واضطرت للسفر إلى الخارج لإجراء عدة جراحات صعبة فى جسدها، حتى أنها ظلت لسنوات طويلة على كرسى متحرك.. وكانت منهكة الجسد تعمل وهى على كرسى متحرك لتستكمل مشوارها لإسعاد ومساعدة بنات وسيدات المصنع على الحياة وعلى المعيشة.. وأقمت لها معرضًا خيريًا ثانيًا لمنتجاتها الجديدة وخط المرأة العاملة المستوحى من الصحراء، وذلك فى سنة ٢٠٢٠، وخصص دخله لدعم إجراء جراحات فى القلب لأطفال مستشفى «الناس» الذى تديره د. أنيسة حسونة النائبة البرلمانية سابقًا.. إلا أن د. شهيرة فوزى كان قد أصابها الإنهاك والتعب الجسدى.. وفى السنة الأخيرة، رغم قوة فكرها واستمرار موهبتها وقدرتها على التصميم والإبداع فإنها أصيبت بآلام جسدية متكررة.. وفى الشهر الأخير، فى شهر فبراير، أصيبت بالتهاب رئوى نتيجة ضعف صحتها ووهن جسدها.. ورحلت عن الدنيا د. شهيرة فوزى المصرية الموهوبة المبدعة عاشقة الصحراء صباح يوم ٢٦ فبراير ٢٠٢٢.. تاركة توأمها الجميل: ابنتها آيات المليجى وابنها أحمد المليجى.. وزوجًا كانت تحنو عليه رغم ضعف جسدها هو محمد المليجى.. كانت د. شهيرة فوزى نموذجًا للمرأة المصرية القوية ذات الموهبة الفريدة والذكاء المتقد.. التى استطاعت أن تصل إلى العالمية بسبب إبداعها الفريد، حيث قدمت عدة عروض لأزيائها المصرية المبهرة فى إيطاليا واليونان ودبى.. فنالت الإعجاب والثناء، وكانت خير سفيرة للأزياء المصرية وللمرأة المصرية المبدعة فى خارج مصر.

رحم الله د. شهيرة فوزى المبدعة المصرية العالمية التى كانت من أغلى صديقات العمر، والتى تستحق التكريم على ريادتها فى اقتحام الصحراء، وتقديم منتجات مبهرة.. صناعة مصرية يدوية فاخرة كانت ترتديها سيدات ونجمات ذات شهرة عالمية، إنها مصرية عظيمة ودليل على أن فى مصر سيدات وصلن بإبداعهن وتصميماتهن إلى العالمية.. أما أنا فسأفتقدها، لكن عزائى أنها فى مكان أفضل.. وأنها قد حققت لنفسها النجاح وتركت لابنتها وابنها تراثًا مصريًا يفتخران به، وحققت لاسمها الخلود كمبدعة مصرية عالمية واستثنائية.. سلامًا لروحها المرهفة ولفكرها الخلاق الجميل.. وسلامًا لكل امرأة مصرية ناجحة بمناسبة شهر المرأة.. وسلامًا لكل امرأة تصل إلى العالمية بإبداعها وبفكرها وبموهبتها.