رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أيها العقل.. ما تكون؟

 

كلنا ندعو الناس للعقل والعقلانية ونطالب بعضنا البعض بالعقل والتعقل، فما هو يا ترى ذلك العقل المنشود الذى نطالب أنفسنا وغيرنا به؟ 

العقل هو تلك الأنشطة التى يقوم بها مخ الإنسان لفهم العالم وتحليله والتعامل معه بما يفيد صاحبه، فالعقل هو الذى به نفهم الوجود ونعرف العلوم والفنون والأديان وكذلك ننتج به كل ذلك ونفسره ونؤوله بما يفيد تجربتنا البشرية.

وما زال الإنسان يعقل ويفهم ويفسر العالم من حوله ويؤوله لما ينفعه ويفيده فى حياته، ومع تطور الإنسان تطورت مناهجه فى التعامل مع تجربته الوجودية، فكانت رحلة المنهجية التى يتبعها الإنسان فى تفسير العالم وكيفية التعامل معه بما يفيده ويحسن حياته ماديًا ومعنويًا، كانت تلك المنهجية متطورة بتطور الإنسان، فكما تطورت لغاتنا من عصر إلى عصر، وتبدلت كليًا أو جزئيًا تطورت علومنا وفنوننا كذلك، وغيّرنا مذاهبنا وأفكارنا عن العالم والوجود مرات عديدة.

فنستطيع أن نقول- بكل ثقة- إن لكل عصر عقله ومنهجيته وتصوراته وأفكاره، ونحن إذا تكلمنا عن العقل، فبالضرورة نقصد العقل المعاصر الذى ولدته المناهج العلمية الحديثة والعقل العلمى التجريبى السائد فى مجال العلوم الطبيعية والتطبيقية، وكذلك فى مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية. 

فهل نتعامل مع موروثنا الثقافى والدينى، الذى نُقل لنا عبر عصور سحيقة قديمة، بنفس المنهجية التى نفهم بها العالم الطبيعى والإنسانى، أم نحتفظ بمنهجيات قديمة تقليدية أكل عليها الدهر وشرب؟

لا شك أن الإجابة ستكون: بل نُخضع الموروث والمنقول كله لمناهج العلم الحديث، وهذا يستلزم منا تحليل المنقول لنا من العصور الغابرة من حيث الوثوقية فى نسبته لقائليه الصادر عنهم من جهة، ثم يستلزم منا تصنيف هذا المنقول موضوعيًا بحسب المجال الذى يتناوله ذلك المنقول لنا عبر أجدادنا. 

فأما الوثوقية بالمنقول فسيكون التصنيف كالتالى: 

- أولًا: موثوق بنسبته أو ما يسميه التراثيون متواترًا يقينى النسبة لقائله. 

- ثانيًا: موثوق النسبة إلى حد ما، فيغلب على الظن أنه صحيح النسبة.

- ثالثًا: مشكوك النسبة ويغلب على الظن ضعفه.

- رابعًا: وأخيرًا قسم يغلب على الظن كذب نسبته ووضعه بهتانًا وزورًا على لسان شخص مبجل أو مقدس لهدف ما، سواء كان الهدف نبيلًا أو خسيسًا.

وهذه هى القسمة بحسب الوثوقية، أما بحسب مواضيع المنقول، فمن الممكن أن نقسم موضوعات الموروث إلى:

- أولًا: ما يرتبط بعالم ما وراء الطبيعة، الذى يسمى الميتافيزيقا، أو بحسب المصطلح العربى الإسلامى الغيب غير المحسوس أو المنظور، وهو ما يرتبط بكل موجود خارج كوننا المعروف والمدروس بمناهج العلم الحديث.

- ثانيًا: مجموعة من القصص عن الكون وتاريخه وكيفية تكوينه وصناعته، ومن الممكن أن نسميه قسم التاريخ الطبيعى فى الموروث.

- ثالثًا: مجموعة من القصص عن تاريخ الجنس البشرى وتطوره، قد تشمل كوكب الأرض كله أو مناطق محددة.

- رابعًا: مجموعة آراء فى السلوك البشرى، وما هو السوى منه، وما المنحرف، وكيف يكون الإنسان متحليًا بمكارم الأخلاق.

- خامسًا: مجموعة أحكام تشريعية فى بعض مجالات الاجتماع الإنسانى القديم، ونظام لعقوبات من يخالف تلك الأحكام. 

- سادسًا: وأخيرًا، مجموعة آراء بخصوص مستقبل الجنس البشرى والمصير الإنسانى فى كوكبنا الأزرق الجميل.

فبهذا التصنيف السريع ننظر فى كيفيات التوفيق بين المنقول عن الأقدمين والمعقول وفقًا لآخر المنهجيات التى أبدعها العقل الإنسانى فى القرن الواحد والعشرين.

ولا يخفى عليكم أن عملية النقل والوثوق هى عملية عقلية أولية، ثم عملية تصنيف المنقول هى كذلك عملية عقلية، ويبقى سؤال: كيف نتعامل مع كل ذلك بعقل سليم ذى منهجية علمية حديثة؟ يحتاج منّا للإجابة، وهذا حديث قريب آخر.