رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

طبق فوتشينى ساخن لضحايا الحرب

سأصنع اليوم طبق مكرونة.. 

اشتريت المكرونة شرائط عريضة تشبه شرائط الجنود الذين يتساقطون برصاصات يعرفون حتمًا أنها ستصيبهم، شرائط طويلة مسارات لخطواتهم الزاحفة ببيادات ثقيلة، وتتسق مع حجم ركبة منثنية تجرجر بقايا حياة وذكريات وضحكات وشباب، المكرونة الشرائط لا تكون هكذا مفرودة طوال الوقت ومصلوبة فى خط مستقيم ليست له بداية أو نهاية. أحيانًا أجد فى السوبر ماركت نوعًا شرائطه ملتفة حول نفسها مكونة كرة، وردة، جنينًا منطويًا على نفسه، جنديًا يهدهد نفسه ويبث فيها طمأنينة زائفة. 

أحمل التجمعات الكروية بحذر، قبل أن أضعها برفقة فى الماء المغلى، لا تتناسب كلمة الرفق مع الفقاقيع المتصاعدة من فوهات بركان الماء، لكنها تتماهى مع تصورى وأنا أحمل كرة أرضية تتوازى عليها خطوط العرض فيحفظ كل إقليم مناخه: الجليدى، المعتدل، الحار، هناك أقاليم أخرى ستستعيد معرفتها عندما تذاكر لابنك منهج الصف الثالث الإعدادى: الإقليم الصينى، إقليم البحر المتوسط، الإقليم المدارى، إقليم البلقان. خطأ، إقليم البلقان ليس إقليمًا مناخيًا، لكنه إقليم جغرافى سياسى، على المرء أن يكون دقيقًا فى معلوماته. لأنه سيكون دائمًا متأرجحًا فى تقديراته.

لا تعرف أمهاتى غير المكرونة بالصلصة الحمراء، والمكرونة الاحتفالية.. المكرونة بالبشاميل التى تأخذ وقتًا وجهدًا لإعدادها، لذا ترتبط بالاحتفالات والعزائم، لكن المكرونة بالصلصة الحمراء هى الأسهل على الإطلاق بين الأكلات، لا تحب أمى المكرونة بالصلصة البيضاء، المكرونة الفوتشينى.. تسميها عكًا.. ولا يعنيها كثيرًا تعدد أسماء أطباق المكرونة: لازانيا بولونيز، بيستو باستا، أو... 

لكنى لن أساير ذوق أمى وسأضع طبق مكرونة يليق بتنوع الاختيارات فى العالم، برئيس جاء من أوكار الثعالب، أو كهوف الدببة يحلم بعرش وصولجان، ورئيس عجوز سقط أكثر من مرة على سلالم الطائرة، ورئيس أحب مدرسته وقضى عمره معها، ورئيس جاء من البلاتوهات إلى قصر الرئاسة، رئيس يصغرنى فى العمر بخمس سنوات «٤٤ عامًا» يواجه بلده خطر الاختفاء، الذوبان كما تذوب الجبنة الموتزاريلا فى الصوص الذى سأصنعه لطبق المكرونة، يستنجد الرئيس الممثل الذى ارتدى قناع الواثق ولم يظهر عليه التردد مع ومضات الفلاش المحيطة به: الحرب وشيكة، الحرب على الأبواب، كلاكيت للمرة التى لا نعرف عددها يسحب الساحر السجادة، البساط، ولا تسقط الأكواب، يصيح ذو الوجه الذى سيعرف الندبات قريبًا: مَن مستعد للقتال معنا؟ لا أرى أحدًا. فلا تدق الأجراس فى الكنائس أو يرتفع الأذان فى المساجد. 

سأصنع طبق مكرونة يليق بإعلان حظر التجوال فى بلاد لم أعرفها، وسأحمل دهشة مباغتة أنه لا يوجد فرق توقيت بين بلدينا، يا إلهى هذا يستدعى أن يمر بنا خط طول واحد، وأننا فى موقعنا على خريطة الأرض على استقامة واحدة، أنظر للخريطة وتتأكد المعلومة وأستزيد بأن المسافة بالطيران المباشر بين البلدين تستغرق ثلاث ساعات، ورغم أن عدد المصريين فى أوكرانيا قليل جدًا «٦٠ مصريًا»، إلا أننى سألهث معهم لقضاء كل الالتزامات والعودة للبيت قبل العاشرة مساء، وقت بدء الحظر، الذى يحمل مذاقًا واحدًا ثقيلًا وحزينًا سواء فى القاهرة أو بيروت أو كييف أو... 

تليق بأن تلتهم دولة دولة، هل درسنا هذا من قبل، هل عايشنا هذا على شاشة التلفاز، هل سقطت تماثيل من قبل؟. العالم يتغير بسرعة كبيرة والدورات الزمنية تبدو متكررة، والتاريخ يعيد نفسه ونحن نتعثر فى أقدارنا.. فى طاسة كبيرة أضع ملعقة زبد ومرق دجاج وحبات بروكلى أخرجتها من الفريزر، وشرائح من الفلفل الأحمر والأخضر والأصفر، نصف ملعقة ثوم، ماذا لدىّ من بقايا لحوم أو دجاج؟ ملاعق من اللحم المعصج، أصابع كفتة، أقطعها صغيرة، زيتون أخضر، والأهم الجبن الرومى المبشور، كل ما لدىّ فى الثلاجة سأضعه فى هذا الطبق، كل ما لدىّ من ضعف وغبن وأسى ووجع ودموع. فاقبلوه منى عساه يجعلنى معكم.