رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

غُول الميتافيرس

في الآونة الأخيرة ازداد الكلام عن "الميتافيرس"، وهذه الكلمة تتكون من شقين، الشق الأول وهو "meta" بمعنى ما وراء، والشق الثاني "verse" ومعناها "ما وراء العالم"، هذا وقد بدأ المُؤلفون في دي سي كومكس في استخدام هذا المصطلح اعتبارًا من عام 2019م، للإشارة إلى نسخة مركزية من الواقع تؤثر على الإصدارات المستقبلية الأخرى في الخطوط الزمنية البديلة، ويستخدم هذا المصطلح عادة لوصف مفهوم الإصدارات المستقبلية المفترضة للإنترنت، المكون من مُحاكاة ثلاثية الأبعاد لا مركزية، ومُتصلة بشكل دائم، فهذا العالم الماورائي سيجعل حياتنا تنتقل إلى حياة افتراضية، تخرج بنا من العالم الواقعي، لتدخل بنا إلى عالم آخر يعتمد على الافتراض والإنترنت، والتقنيات الذكية.

وهذا العالم منذ أن أعلن عنه "مارك زوكربرج" وهو دخل بنا في دائرة واسعة من الجدل، فالبعض يرى أن هذا العالم دليل على التقدم والحياة الأفضل، في حين أن هناك رأيا آخر يرى أن هذا العالم هو بداية نهاية الحياة البشرية، والدخول في عالم لا إنساني تمامًا. فهذا العالم يجعل صاحبه يعيش في عالم خاص به، وله آلياته، فهو يحتاج إلى نظارات وقُفازات وشاشات، وسماعات، لأنه في النهاية عالم رقمي يُتيح للشخص صورة رمزية خاصة به، سيتم تسجيل عناوينها على المنصات الرقمية بأصول رقمية.

والحقيقـة أن أول من ابتــدع هذا المصطلــح كــان الروائي "نيل ستيفنسون" عام 1992م، في رواية (Snow Crash) التي تخيل فيها شخصيات افتراضية حية تلتقي في مبانٍ ثلاثية الأبعاد، وغيرها من بيئات الواقع الافتراضي. ورغم أن تلك التقنية بالقطع سيكون لها العديد من المميزات والإيجابيات، مثل أنها ستختصر العديد من السنوات في تحقيق التواصل وتحديث التقنيات في أسرع وقت، وستُؤثر على العديد من القطاعات، مثل قطاع التعليم بسبب التدريب والانغماس على التقنيات المتطورة، وهذا مما لا شك فيه سيؤثر إيجابيًا على قدرات الطلاب وفي تطوير مهاراتهم المطلوبة، وسيزيد من ثقتهم في أنفسهم.

لكن رغم الإيجابيات، إلا أن هناك العديد من السلبيات بل والأخطار، وأهمها على الإطلاق دمج الحياة الافتراضية بالواقع، وأيضًا انتشار التنمر الإلكتروني، والتحكم بالسياسة التنظيمية لهذه التقنية الحديثة، مما قد يؤدي إلى التأثير السلبي والمباشر على طبيعة التفكير البشري، خاصة فئة الشباب والمُراهقين، علاوة على انتشار جرائم الإنترنت بشكل أكبر، ونشر العديد من التوجهات، والمعتقدات الفكرية السلبية، والأهم من ذلك انتشار السلوكيات المنبوذة مُجتمعيًا، والتي ستتحول إلى حركات مرئية، مما قد يُزيد من العُنف والعنصرية والتطرف، وأيضًا اختراق الحياة الخاصة، فلا خلاف على أن العالم الافتراضي يصعب تأمينه، ويسهل اختراقه.

كما أن الميتافيرس يُعزز فرصة انعزال العالم، وهذا في حد ذاته كارثة كبرى، لأن هذا سيقلل من فرص الترابط الاجتماعي بين العائلات، والأصدقاء، والزملاء، كما أنه يؤثر على الحالة النفسية للإنسان، وكذلك الصحة العضوية، بسبب المُعاناة من اضطرابات النوم، والغذاء، والقلق، وأيضًا تزداد فرص الإصابة بالاكتئاب، علاوة على مضيعة الوقت كلية.

فهل هناك أدنى شك في أن "الميتافيرس" غُول يقتحم حياتنا، ويخرجنا من عالم بشري حقيقي، ويدخل بنا في عالم خيالي تمامًا؟ وللأسف، رغم إيجابيات هذا العالم على النواحي التكنولوجية والعلمية، والرقمية إلا أن سلبياته ومخاطره على الحياة الإنسانية والنفسية والصحية والاجتماعية لا حصر لها في الواقع، والتجارب العملية أثبتت أننا ضعاف النفوس تمامًا أمام غُول التكنولوجيا، فهي التي تُحركنا رغم أننا مَنْ صنعناها، فما أصعب أن تصنع شيئًا لكي تقوده، ثم تتحول أنت إلى عجلة قيادة يُحركها هو كيفما يشاء.