رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«مأساوية وغامضة ومريبة».. ظاهرة الموت المبكر عند الأدباء الروس

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

في كتابه "الأدب الروسي.. شخصيات وتاريخ وظواهر" الصادر حديثًا عن دار دوِّن للنشر والتوزيع يسرد الدكتور محمد نصر الدين الجبالي كيف كانت نهايات بعض الأدباء الروس غامضة ومريبة ومأساوية.

يقول الجبالي عن نهايات الأدباء الروس: "في روسيا كان الموت المبكر علامة على صدق الشاعر، ومعدنه الحقيقي. ربما يبدو ذلك أمرًا خياليًّا بعض الشيء، ولكن الشعراء الروس الكبار كانوا يتوقعون دنو أجلهم؛ حتى إن هناك من كان يتساءل: هل يستطيع الشاعر الحقيقي العيش أكثر من 40 عامًا؟ كانوا يروْن أنه من الصعب على المبدع الحقيقي تحمل قسوة الحياة ومعاناة البشر حوله سنوات طويلة، والأمر لا يقتصر على الشعراء فحسب، بل نلاحظ ذلك عند كُتاب النثر أيضًا، فقد توفي «نيقولاي جوجول» العظيم عن اثنين وأربعين عامًا، و"إسحق بابل"عن 45 عامًا، و"فاسيلي شوكشين" عن 45 عامًا.

ومن الصعب ألا نطلق وصف المأساة على نهايات الأدباء الروس، نهايات يكتنفها الغموض، حتى اليوم لا تزال تثير حيرة النُّقاد والباحثين والمهتمين بالأدب الروسي. مات «ك. ريليف» في عام 1826م مشنوقًا مع أربعة من قادة ثورة الديسمبريين، ومات.

«جريبويدوف» مقتولًا من الثوار في إيران، وأصيب الشاعر «بوشكين» إصابة قاتلة على يد البارون «جورج دانتيس»، وهو المصير نفسه الذي أصاب الشاعر «ميخائيل ليرمونتوف»، الذي قُتل في مبارزة على يد «نيقولاي مارتينوف».

وهناك شكوك كبيرة تشير إلى أن «ليرمنتوف» و«بوشكين» قُتلا بأمر من القيصر الروسي، أما «جريبويدوف» فقد تسبب القيصر بقتله، حينما تعمَّد إيفاده إلى إيران غير المستقرة حينها. كما اتهم الأديب «ب. تشادايف» بالجنون رسميًّا، وتم حظر أعماله من النشر على جميع أراضي الإمبراطورية الروسية.

ويشرح الجبالي نهايات بعض الأدباء الروس فيقول:

ألكسندر نيقولايفيتش راديشيف

يُعتبر الكاتب «ألكسندر نيقولايفيتش راديشيف» (1749- 1802م) أديبًا مبدعًا ومدافعًا صلدًا عن الدولة الروسية، ومن أهم أعماله كتاب «الرحلة من بطرسبورج إلى موسكو»، التي فضح فيها تدني أخلاقيات الأثرياء، وحرمانهم للفقراء من كافة حقوقهم.

وكانت طبقة الملَّاك الكبار تسيطر على مقاليد الأمور، فحُكم عليه بالإعدام بمرسوم من القيصر، ثم سرعان ما تم العفو عنه، واستُبدِل بالنفي إلى سيبيريا، حيث عاش «راديشيف» حتى عام 1796م، إلى أن أصدر القيصر الجديد «بافل الأول» قرارًا بالعفو عنه تمامًا، وسُمح له بالعيش بقرية قريبة من كالوجا إحدى ضواحي موسكو، وفي عام 1801م تمت دعوته إلى بطرسبورج وتعيينه عضوًا في لجنة صياغة القوانين. ويبدو أن «راديشيف» لم يفهم المغزى من قرار القيصر باستضافته، وظل يصرُّ على تحقيق حرية الصحافة، والمساواة بين الناس أمام القانون، وكانت النتيجة أن حِيكت ضده مؤامرة، وتُوفي فجأة في 12من سبتمبر 1802م.

كان «راديشيف» حينها في الثالثة والخمسين من العمر، وكانت وفاته محل تشكك وريبة من محبيه، وسارت إشاعات بقتله عن طريق وضع السم في كأس النبيذ الخاص به.

كما تُوفي الأديب «ألكسندر جريبويدوف» في فبراير 1829م مقتولًا أثناء سفره إلى طهران، وقع ذلك تحديدًا في مدينة تبريز، حيث كانت القنصلية الروسية. كان «جريبويدوف» أديبًا وموسيقارًا ودبلوماسيًّا، سافر لأداء واجبه في إيران.

إقامته بالقنصلية اندلعت ثورة في المدينة، وأُشيع بأن الدبلوماسيين الروس سخروا من التقاليد والعادات الإسلامية. وتجمع قرابة عشرة آلاف شخص حول القنصلية وشرعوا في إحراقها.

وحتى اليوم، لا توجد معلومات تفصيلية موثَّقة عن الطريقة التي تُوفي بها «جريبويدوف»، ولكن من هذه الروايات أنه خرج إلى الجموع بسيفه، وأصيب بحجر كبير في رأسه، فسقط فاقدًا وعْيه. 

وفي رواية أخرى أنه أغلق على نفسه مكتبه، وأطلق النار على الحشود في الخارج، ولم يستطع هؤلاء الولوج إلى مكتبه من الباب، فقاموا بتحطيم السقف والإجهاز عليه وقتله، وتقطيع جسده إلى أشلاء، حتى قيل إنه تم التعرف على شخصه بصعوبة بالغة.

جوجول

أما «جوجول» صاحب رواية «المعطف» الشهيرة، فحقيقة وفاته أنها وقعت في 18من فبراير 1852م، حينما رفض الكاتب تناول الطعام، واجتمع الأطباء للتشاور، وخشية فقدان الأديب العظيم اتخذوا قرارًا بإرغامه على تناول الطعام. ومن بين الأساليب التي اتبعوها في ذلك استخدام العلقيات، وهي فصيل من الطفيليات التي تشبه الديدان، وكان «جوجول» يشمئز من رؤيتها؛ ولذا فقد قاوم قدر الاستطاعة، ومع شروق شمس 21 من فبراير أخذ يهذي، وفقد وعْيه، ثم تُوفي بعد بضع ساعات.

تقول إحدى الروايات: إن «جوجول» قرر تجويع نفسه سعيًا لإثبات انتصار الروح على الجسد. فيما يؤكد علماء النفس على مقولة إن جوجول كان يعاني طيلة حياته ضغوطًا نفسية، وكان يجب عدم الاكتفاء بعلاج أمراضه الجسمانية، بل النفسية أيضًا.

من ناحية أخرى، يرى المحبُّون للكاتب العظيم أن حالات النشوة الدينية، وتقمص شخصية الناسك التي عاشها الكاتب في سنواته الأخيرة - هي ظاهرة صحية تمامًا، ويؤكد هؤلاء أن المرض الذي عانى منه «جوجول» لم يكن محددًا بعد، وأنه من الصعب أن يموت إنسان بسبب امتناعه عن الطعام لثلاثة أيام.

وصرح الطبيب الخاص بـ«جوجول» «ألكسي تاراسينكوف»، والذي صاحبه في ساعاته الأخيرة، بأن انهيار قُوى «جوجول» وهذيانه وقعت في الساعات الأخيرة قُبيل وفاته، ويبدو أنه كان هناك سبب عضوي ليس له علاقة بالجوع أو بالتصوف الديني، وهو ما أدى إلى الوفاة، إلا أن هذا السبب بقي سرًّا حتى يومنا هذا.

أنطون تشيخوف

ويعتقد الكثيرون أن «أنطون تشيخوف» (1860-1904م) قد تُوفي ليس بسبب السكتة القلبية، كما هو شائع، بل بفعل سكتة دماغية نتيجة توقُّف وصول الأكسجين إلى المخ. وكما هو معروف أن «تشيخوف» كان مريضًا بالسُّل. وفي أثناء الاحتفال بمرور 25 عامًا على أولى كتاباته، كان المرض قد تمكَّن منه تمامًا، حيث بدا «تشيخوف» ضعيفًا لا يفارقه السُّعال، وأصبح هذا السعال مؤلمًا للكاتب حتى إن أطباءه نصحوه بالسفر إلى منتجع «بادن فيللر» للتعافى قليلًا، ولو لفترة قصيرة.

وفي الخامس عشر من يوليو 1904م، طلب للمرة الأولى من زوجته أن تستدعي الطبيب فورًا الذي قام بحقنه بعقارٍ ما، وبعد بضع دقائق أخذ «تشيخوف» يهذي ويحكي كلامًا عن اليابانيين والبحَّارة. وأرادت زوجته الفنانة «أولجا كنيبير» أن تضع على صدره كيس ثلج، إلا أنه أوقفها قائلًا: «لا يُوضع الثلج على القلب الفارغ»، وطلب منها كأسًا من النبيذ، ثم ابتسم ورقد على جانبه الأيسر، واستقبل موته. وقال بالألمانية: «إنني أموت الآن». غير أن الأطباء ذكروا أن السبب الرئيسي للوفاة هو سكتة قلبية وليست دماغية.

أما الاعتقاد الجديد، فقد تأكَّد ببحث قام به علماء بريطانيون نجحوا في تحليل نسيج عالق على قميص الكاتب كان يرتديه أثناء وفاته. وكانت النتيجة صادمة للجميع، خاصة الباحثين في تاريخ حياة الكاتب وإبداعاته؛ إذ أظهر التحليل الكيميائي الدقيق لهذه الأنسجة حدوث انسداد في الأوعية الدموية الموصلة للمخ، وهو ما أدى إلى إصابته بنزيف دماغي، تسبب في وفاته، وأن سبب الوفاة لم يكن نوبة قلبية، بل سكتة دماغية حادة.

إيفان كونيفسكوي

مثال آخر هو الشاعر «إيفان كونيفسكوي» الذي ولد في عام 1877م، ولم يعش سوى 23 عامًا فقط، ويعتقد الرمزيون الروس، أنه لو قُدر له العيش لعشرين عامًا أخرى لأصبح الشاعر الأشهر في روسيا. ومنذ بداياته انشغل إيفان بالبحث عن العالم المثالي وعن أصل الحكمة، ويرى أنه كان في حاجة إلى إرادة قوية لا تهتز لتحقيق هذه الأهداف. ولعل ذلك كان السبب في مأساته. ففي صيف عام 1901م توجَّه «كونيفسكي» للاستجمام في منطقة ريجسكوي، إلا أنه لم يصل إلى هذا المكان أبدًا، حيث توقف في قرية سيجولدا. ثم توجَّه في رحلة مبتعدًا عن المدينة، وضلَّ طريقه في الغابة، وظل يبحث حتى وصل إلى شاطئ نهر صغير، وفي أثناء رحلته القصيرة وقعت المأساة دون تواجد أي شهود. ولعل السبب الأكثر منطقية أنه غرق في النهر.

مكسيم جوركي

وفي السابع والعشرين من مايو 1936م عاد «مكسيم جوركي» إلى موسكو قادمًا من جزيرة القرم، وكان يشعر بالإرهاق، وعرَّج أثناء عودته على أحفاده، وهناك أُصيب بعدوى الإنفلونزا. وفي اليوم التالي توجَّه إلى مقبرة ابنه، حيث اشتد المرض عليه، وساءت حالته الصحية تدريجيًّا، وفي الثامن من يونيو أصبح جليًّا أنه لن يُشفى من مرضه، وأُصيب الكاتب باضطراب في التنفس ومعدلات النبض، وازرقَّت أطرافه، وعاش عدة أيام فقط بعدها، زاره خلالها الرئيس السوفيتي «جوزيف ستالين».

وفي 18 من يونيو تُوفي «جوركي»، وثبت لاحقًا أن رئتي الكاتب كانتا في حالة سيئة تمامًا، حتى إن الأطباء تعجبوا كيف كان قادرًا على التنفس، غير أن الإشاعات التي سرت حينها أن «ستالين» أو «تروتسكي» قد أمرا بدس السم له في الطعام، وقد صرَّح بذلك «جنريخ يا جودا» أحد قادة اللجنة الشعبية للشئون الداخلية للاتحاد السوفيتي، و»بيتر كريوتشوف» السكرتير الشخصي للكاتب، حيث حكمت المحكمة بإعدامهما رميًا بالرصاص، عقابًا على هذه التصريحات.

فلاديمير ماياكوفسكي

وكانت وفاة الشاعر الروسي الكبير «فلاديمير ماياكوفسكي» (1893-1930م) أيضًا غامضة، ومثَّلت لغزًا وحيرة كبيرة للباحثين، فقد تُوفي الشاعر في إبريل 1930م وبقيت الرواية الرسمية حتى يومنا هذا أنه انتحر، غير أن هناك العديد من النقاط التي تحتاج إلى تفسير. ففي عام 1928م تعرَّف «ماياكوفسكي» في باريس على «تاتيانا ياكوفليفا» وأنجبا طفلة، وكان الشاعر يرغب في الرحيل عن الاتحاد السوفيتي، بيد أن السلطات لم تسمح له بذلك. كان الاتحاد السوفيتي آنذاك في حاجة إلى بقاء «ماياكوفسكي» بوصفه شاعر الثورة، والمنبر الذي يتحدث باسمها في العالم كله.

 وقد تحدث أصدقاء «ماياكوفسكي» عن هذا الخلاف الذي نشب بين الشاعر والسلطات، وهو ما يعضد من فرضية تعرضه للقتل في عمليات التطهير التي شنتها السلطات خلال الثلاثينيات.

كانت الفنانة «فيرونيكا بولونسكيا» آخر من رأى الشاعر قبل موته، وفي أثناء خروجها من شقته سمعت صوت إطلاق رصاصة فعادت فورًا، ووجدت الشاعر قد تُوفي. وعُثر في منزله على ورقة صغيرة كتبها قبل وفاته مباشرة، وقال فيها:» لا تتهموا أحدًا بقتلي ولا تثيروا شائعات، فالميت لا يحب ذلك.. المعذرة يا أمي ويا أختي ويا أصدقائي، ليس لدي خيار آخر». وقد أكد أصدقاء الشاعر - ومنهم «سيرجي إيزينشتاين» - أن اللغة التي كُتبت بها هذه الورقة ليست لغة «ماياكوفسكي» على الإطلاق.

وهناك أمثلة أخرى كثيرة، تؤكد حقيقة هذه الظاهرة، ولعل نسبة الانتحار المرتفعة بين الأدباء الروس دليل إضافي على ذلك.