رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشكال وألوان المنقول

 

المنقول لنا عن آبائنا الأولين وأجدادنا الغابرين كثير جدًا، منه المقدس وغير المقدس، ومنه الذى تم تقديسه لآلاف السنين ثم انفض عنه الناس لغيره، فكما أنه لكل زمن دولة ورجال فلكل زمن أيضًا مقدساته ومسلماته. 

فلطالما قدس أجدادنا وجداتنا كتاب الخروج إلى النهار المقدس، وهو حاليًا المشهور والمعروف بكتاب الموتى الذى نُشر بكل لغات العالم وكان من قداسته أن يحمله المصرى القديم معه فى مقبرته ليواجه الآلهة به فى العالم الآخر، حيث الإله العظيم أوزوريس والنعيم المنتظر المقيم والخلود السرمدى كخلود الآلهة وكان أجدادنا العظام أول من ابتكروا فكرة البعث والخلود وتبعهم فى ذلك العديد من الشعوب.

ثم جرى فى نهر مصرنا أديان أخرى كثيرة حتى جاء العرب وفتحوا مصر حاملين الدين الإسلامى الحنيف ابن بلاد الحجاز وامتداد للأديان الإبراهيمية اليهودية والمسيحية وحملوا لنا القرآن الكريم بأحرفه السبعة وقراءاته المتعددة، واعتنق أجدادنا الإسلام لأسباب شتى وكانوا من أكثر الناس خدمة لهذا المقدس الجديد تلاوة وشرحًا وتفسيرًا وحلًا لما تشابه منه وفض إشكاليات الناسخ والمنسوخ والعام والخاص، وما جاءنا حول القرآن الكريم من قصص وحكايات وأحاديث وأخبار وإسرائيليات تجعل الحليم حيران، فحاول رجال الدين بقدر عقولهم فى العصور الغابرة تبيين الغامض فى كل ذلك وفك التناقضات الكثيرة فى أسباب النزول والحكايات المحكية فى النص وحول النص وكيف وصلنا النص مع هؤلاء الفاتحين فوق الخيول والجمال والحمير، ثم كيف تسربت القداسة للنص المؤسس وهو القرآن الكريم وما حوله من أخبار وأحاديث منسوبة صدقًا أو زورًا أو بين ذلك سبيلًا لشخص الرسول العربى المكى الكريم وكذلك الحكايات والقصص التى جاءوا بها حول معانى الكلمات الغريبة بل اللغة العربية الغريبة عنا وقتها وكذلك المناسبات التى ذكر فيها النبى القرشى تلك الآيات وكانت المناسبات حوادث ومشاكل المجتمع الحجازى المكى ثم المدنى، فسياق النص هو الكاشف عن معانيه ومبين غوامضه ولا يفهم النص بتاتًا من لا يفهم أحداث العصر النبوى ومعارك وغزوات النبى مع قبيلته قريش ثم مع كثير من قبائل العرب ويهود الجزيرة وحرب الروم.

وكذلك فهم مشاكل المجتمع الإسلامى الناشئ، فمَنْ هو أبولهب ومَنْ حمالة الحطب ومَن العتل الزنيم ومن الشائن الأبتر ومَن الذى كالحمار يحمل الأسفار؟ ومَن الذى كالكلب اللاهث؟ وما الخشب المسندة وغيرها، فكل هذا يستحيل معرفته من النص المنقول مع الفاتحين فقط ولا بد حتمًا من حكايات هؤلاء الفاتحين لنا وإخبارهم عن تلك الأشخاص مَنْ هم وكيف كانوا وما حدث لهم. 

وكذلك حياة شخص النبى كيف كانت ومَنْ زوجاته اللاتى أغضبنه وجاء القرآن مؤدبًا لهن ومهددًا بأن النبى سيبدله الله بخير منهن، وكذلك ما الذى حرّمه النبى على نفسه وعاتبه القرآن على ذلك، ومَن الأعمى الذى لام القرآن النبى على عبوسه وتوليه عنه، ومَن المرأة التى اتُّهمت بالزنا فجاءت الآيات القرآنية معاتبة من قذفها بالزنا ومطبقة العقوبة عليهم ونفى التهمة دون بينة أو دليل أو اعتراف خصوصًا فى العرض والشرف، ومَنْ هى التى جادلت النبى فى زوجها، وما هو الظهار وكذلك التى قضى زيد منها وطره ثم زوجها القرآن للنبى بل مَنْ هو زيد أصلًا، كل ذلك وغيره كثير تستحيل معرفته دون تلك الحكايات والقصص والأحاديث المحكية التى جاءت لنا من خلف صحراء سيناء مع هؤلاء الفاتحين الجدد. 

سمعنا كل هذا دون كتابة لعقود طويلة ثم بدأنا كتابته وتدوينه ومحاولة تحليله ومعرفة طيبه من خبيثه وصحيحه من ضعيفه بجهود بشرية متواضعة فى عصور تقل فيها الكتابة وتنتشر بها الأمية ويصعب توافر الكتب والكراريس، ولم تنتظم عملية التدوين لكل تلك المحكيات الشفوية إلا فى العصر العباسى بعد قرابة ٢٠٠ عام من وفاة النبى الكريم.

فيا له من منقول ضخم لا بد من فك شفرته حتى يستبين لنا ذلك الكتاب الذى جاءنا من جزيرة العرب فقدسناه رويدًا رويدًا حتى استحكم من المجتمع المصرى ودخل المصريون فى الدين الجديد أفواجًا وتركوا أديان آبائهم وأمهاتهم جيلًا بعد جيل، وأصبح أمون وإيزيس وحورس نسيًا منسيًا بل أساطير مضحكة بعد أن كانت يومًا قصصًا مقدسة يلزم منها الخشوع والبكاء والاتعاظ.

فكان تصنيف وتقييم تلك الحكايات الكثيرة المختلفة حينًا والمتناقضة أحيانًا مهمة قرون ذلك الفتح العربى الجديد لمصر وقتها، وهذا حديث آخر فتابعونا يا أعزائى.