رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الهوا هوانا.. أم هواهم ؟

 بداية و لضبط المصطلحات أود الإشارة أن ضميرالمتكلم هنا يعود على جموع المشاهدين و المستمعين من متلقي الرسالة الإعلامية ،و أنا منهم . أما ضمير الغائب في عنوان المقال فهو عائد على ملاك القنوات و المنصات الإعلامية  الخاصة . و هنا أستطيع أن انتقل إلى توضيح تفصيلي لما أردت أن أقوله بطرحي لهذا السؤال .  فعلى المستوى الدولي – و ليس المحلي فقط – هناك أشكال و أنماط متعددة لنوع الرسالة التي يسعى الإعلامي أن يوصلها للمتلقين  من خلال الوسيلة الإعلامية . فكما أنه لا توجد وسيلة إعلامية تنطلق بدون تمويل كاف ، فليست هناك منصة تنطلق عشوائيا بلا هدف و لا مضمون . و قد يكون هدف المحتوى الإعلامي تثقيفي أو تعليمي أو سياسي أو حتى ترفيهي . ثم يأتي الاهتمام بالشكل ليخدم سرعة وصول الرسالة للجمهور المستهدف ، فقد يخرج المحتوى في شكل إخباري أو حواري أو استقصائي أو منوعاتي . و كلما كان المحتوى واضحا و ملونا و رشيقا و مرتبا و نافذا إلى المتلقي بسهولة و يسر ، كلما كانت الوسيلة ناجحة في أداء رسالتها و تحقيق هدفها . و مع انطلاق الإعلام المسموع في مصر في النصف الثاني من عشرينيات القرن الماضي كانت خدماته أهلية بهدف ربحي ، إذ انطلق بجهود و تمويلات خاصة بهدف تجاري محدود المدة -أربع ساعات يوميا على أقصى تقدير - و في دائرة بث محدودة . ثم جاءت الإذاعة المصرية فنشأت منذ انطلاقتها الأولى 31 مايو 1934 عملاقا قويا فتيا واسع الانتشار ، تستهدف صالح المجتمع في المقام الأول و الأخير ، فحملت مادتها كل ما يفيد المستمع و يثقفه و يرفه عنه ، و يؤكد تاريخها الموثق و ذكريات الناس معها صدق شهادتي .  ثم جاء شهر يوليو عام 1960 ليشهد انطلاق أول بث تليفزيوني مصري و الذي لخص رسالته في شعاره الأول الذي حمله و هو " التليفزيون العربي " و استمر هذا الجهاز شريكا مع الإذاعة في نشر كل ما يخدم قيم  المواطنة و إعلاء المثل العليا في المجتمع و ترسيخ التقاليد و الأخلاق العربية .  و في منتصف التسعينيات بدأ السماح بانطلاق فضائيات خاصة. و كانت تلك القنوات في معظمها تقدم مضامين إعلامية موضوعية و ترفيهية مشوقة . مما جعلها تحقق نجاحات ملموسة في حينه . و كان حجم الإنفاق و الأموال التي تم ضخها خادما لأهداف تلك القنوات التي هددت سيطرة التليفزيون الرسمي بقنواته العامة و المتخصصة .  
       و مع مطلع العقد الثاني من القرن الحادي و العشرين و مع اشتعال الثورات الشعبية في المنطقة انحرفت بعض القنوات عن المصلحة الوطنية العليا . الأمر الذي  فرض إعادة الانضباط على الخريطة الإعلامية كلها . فكانت القوانين التي صدرت بهياكل و هيئات جديدة منوط بها ضبط المنظومة الإعلامية بشقيها الخاص و العام . و تحركت مياه كثيرة انتهت بنقل ملكية كثير من تلك القنوات و احتجاب وجوه كانت تتصدر الشاشات لتظهر أخرى ، كما تم تغيير مضامين عدد من المنصات ، لينتهي الأمر بضبط المشهد إلى حد كبير . 
           و لكن تبقى على الساحة قناة أو اثنتين ممن اصطلح على تصنيفهم تحت فئة " السي كلاس تشانلز ". و هي قنوات فقيرة في شاشتها ، ضعيفة في مستوى ما تقدمه من مواد . فتلجأ عادة إلى إدارة غير محترفة ، و يبقى هدفها الأول و الأخير هو تحقيق الربح المالي فقط ، دون النظر للدور المجتمعي المفترض أن تقوم به . و ليس معنى كلامي أن كل الخاص من القنوات هو فاسد بالطبيعة ، فلدينا أمثلة تؤكد أن من بين رجال الأعمال المستثمرين في مجال الإعلام من يحمل الهم الوطني و يسعى لدعم الدولة و يقدر قيمة الرسالة التي يبثها عبر شاشاته . و لا أجد غضاضة من الإشادة بقناتي " النهار " و "صدى البلد " اللتين قدرتا الظرف السياسي الذي تمر به الأمة و احترمتا قيم المجتمع ، فلم تنجرفا إلى خطيئة سياسية و لم تستجيبا لابتزازات أخلاقية و لم تنزلقا في سقطات مهنية .
             و يبقى السؤال : لماذا الإبقاء على منصات لا تهتم بالمحتوى المطروح للجمهور ؟ فقد ثبت بالتجربة أنها قنوات تفتقد المهنية في الإدارة بدليل تعدد سقطاتها . كما أنها لا تتورع عن بيع الهواء لكل من يشتري بغض النظرعن المضمون الذي يقدمه المشتري و مدى مصداقيته و لا نقول مدى نفعه للناس . و هنا نتمنى على الهيئات المنوط بها مراجعة مواقف تلك القنوات و كذلك نقابة الإعلاميين المبادرة بحماية المجتمع و الأفراد من عدم المهنية السائد ، بتغليظ العقوبات و عدم السماح لغير النقابيين بالنفاذ إلى شاشات و ميكروفونات تلك المنصات ليوجهوا الرأي العام ، إيمانا بالمبدأ القائل إن " فاقد الشيئ لا يعطيه " . فكيف لشخص لا يمتلك من المؤهلات ما يسمح له بأن يكون قائد رأي أن أمنحه تلك الصفة و أحمله هذا الأمانة التي لا يقوى على حملها ؟ 
               و أعود لأطرح سؤالي : هل هواء تلك الفضائيات ملك لمشاهديها أم لملاكها ؟ أظن أن المالك في هذه الحالة لا يبيع منتجا غذائيا في سوبر ماركت فله أن يبيع منتجه لمن يرغب في ذلك ، و لكنه يقدم فكرا – أو هكذا نفترض -  كما أنه يقتحم علينا بيوتنا بمنتجه ، إذن فهو ليس حرا في تسميم الهواء الذي نستنشقه فكرا و متعة و علما .