رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أسبقية العقل على النقل

العقل هو أس وجودنا وسبب وعينا بذواتنا وبالعالم المرئى من حولنا وما نتخيله وراء ذلك العالم الملموس.

ولولا العقل ما تخيل المتخيلون تلك النظم الموروثة من ميتافيزيقا ولأصبحت سرابًا مخسوفًا خسوفًا كليًا.

فالعقل هو أداة نوعنا الهوموسابيان لإدراك أنفسنا والعالم كله وهو ما نتميز به عن باقى أقربائنا من الرئيسيات، وكذلك عن سائر الأنواع الحية فى كوكبنا الأزرق الجميل فما هى تلك الأداة؟

إنه أداتنا للإدراك والتقييم والقرار وبه نولد العلوم والفنون وننتقد ونحسن الأفكار والحياة.

والعقل ينقسم إلى أربعة عقول أساسية، فالأول عقل خرافى أسطورى صرف، والثانى عقل علمى نقدى محض، والثالث عقل يعبد ذاته وخرافاته ويجعلها مقدمة على الإنسان والوجود ويفيض كراهية وعنفًا، والرابع عقل إنسانى محب للحياة والوجود ويفيض مودة ورحمة للوجود كله.

وتتشكل عقولنا الفردية دومًا من مزيج من تلك العقول بأنصبة مختلفة.

ثم يأتى المنقول الثقافى لنا من تركة وتراث من سبقنا من بنى الإنسان بخيره وشره ومقدسه ومدنسه وعاديه، كما زعم الآباء والأجداد الذين نحن على آثارهم سائرون بمزيج من الوعى واللا وعى. 

والنقل مصطلح واسع فضفاض يشمل كل منقول لنا عبر الثقافة لمجتمع ما، ويُحصر فى يومنا هذا اصطلاحًا غالبًا فى المنقول الدينى لنا، خصوصًا من كتب ونصوص ورثنا تقديسها عن الأجداد وأصبحت مقدسة كتقديسنا آبائنا وأجدادنا أو أشد تقديسًا.

ومن نافلة القول أنه لولا العقل البشرى ما عرفنا ذلك النقل بتاتًا، سواء الدينى أو اللا دينى منه، وسواء الإنسانى واللا إنسانى فيه، وسواء المنسوب للسماء أو الأرض كما قرر أجدادنا الأولون.

وإذا حللنا المنقول كله لنا من الأجداد والآباء نجد أن عقولهم هى من أنتجته وهى من قدسته أو دنسته أو ما بينهما، وعقولهم أيضًا هى من اختلفت وفسرت بل تقاتلت وتشاجرت أحيانًا حتى وصلت إلينا تلك النقول ممتلئة بتناقضات وصراعات علينا التحيز لبعضها والتقاتل مع بعضها الآخر ولا يستثنى من ذلك المنقول الدينى الذى ولد الكثير من الصلاح للبشر والكثير أيضًا من الفتن الدموية الكبرى والصغرى وكان سببًا أيضًا للحب والكره وذريعة كبرى للرحمة والقسوة.

فبالعقل وحده جاءنا النقل، سواء المنسوب للسماء أو الأرض، وبالعقل وحده فسرناه وأولناه بالخير والشر، وبالعقل وحده كذلك سفكنا حوله الدماء العبيطة، وبالعقل وحده هذبناه وقومناه ونقحناه وطورناه.

فلولا العقل لم يظهر النقل بتاتًا، سواء المنقول الثقافى لنا بنوعيه الدينى أو البشرى المحض لا دينيًا أو المختلط منهما جميعًا، فبالعقل حملناه وتحملناه وعبر القرون تطور العقل البشرى كثيرًا وتطور بداهة التفسير والتأويل للمنقول بالتوازى.

فالعقل وحده من يملك سلطة التفسير والتقييم والاختيار وهو من يعطى الموت والحياة للنقل كله فالعقل هو مناط التكليف والتفسير، بل هو كذلك مناط التطوير والتثوير للمنقول وبلا شك وهو مناط التغيير والترقيع لمعانى المنقول.

ولعل الكلام يبدو مبهمًا دون أمثلة مبينة للمراد بكل ذلك حتى يزول الغموض وتنجلى المعانى ونتكلم فى ذلك كيف تطور مفهوم الألوهية فى المنقول لنا، وكذلك كيف فهمنا النظم التشريعية والدينية المرتبطة بحياة الإنسان ومعها أيضًا الأخبار الكونية والقصص البشرية التى نقلت لنا عبر سلاسل من الأسانيد الكثيرة المتفاوتة صحة وضعفًا.

ونتكلم فى كل ذلك فى قابل الأيام فى رحلة نحاول أن نفهم منها كيف وصلنا النقل؟ وما هى أنواعه؟ وما هى المعارك والصراعات التى دارت حول النقل الدينى خصوصًا؟