رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قبل أن تعود ريما لعادتها القديمة

نعود ثالثة إلى قضية الفراغ.. ونقصد بها هنا، الفراغ المكاني، الذي يدفع نحو نمو العشوائيات، ليس في إقامة المباني السكنية وحسب، بل يمتد ذلك إلى كل أنواع هذه العشوائيات، التي تمثل في المستقبل، إذا لم يتم مواجهتها في المهد، كارثة اجتماعية، ستجد الدولة، حينها، أنها مطالبة بحلها ومنع تفاقمها.. بل وإيجاد البديل لكل ما تراكم فوق المكان من إشغالات، لا يحكمها منطق، ولا يحتويها تنظيم.. وهي آفة استشرت في ربوع الدولة المصرية، حين أغمضت الحكومة أعينها وأدارت وجهها لها، عندما بدأت في التكون.. لذا.. خسرنا ملايين الأفدنة من الأراضي الزراعية التي تحولت إلى كتل خرسانية، فقدت بموجبها الدولة كثيراً من موارد الغذاء، وبدا أنه لا مفر من الاتجاه إلى الصحراء، لاستصلاح مساحات شاسعة منها واستزراعها، بديلاً عما افتقدناه من أراضٍ خصبة، تروى بماء النيل، وما تكلفه ذلك من مليارات ضخمة.. وهكذا أيضاً، نشأت ظاهرة التوك توك، التي ما زالت مستعصية على الحل إلى الآن.. وغيرها كثير.

أقول هذا بمناسبة قرب الانتهاء من المشروع القومي الجديد، محور المنيب- روض الفرج، الذي يمتد بطول خمسة عشر كيلومترًا، ويخترق كتلاً سكانية، مكتظة بالسكان، الذين نجح الكثير منهم، في غفلة من الحكومات السابقة، في ممارسة وإقامة كل صنوف العشوائيات.. الأمر الذي أقض مضجع المواطنين، وقلل من مستويات الأمان في تجمعاتهم، وخلق حالة من الازدحام والترهل المروري.. لا لشيء، إلا لأن كل من استطاع اقتطاع مساحة من الشارع، أو بقعة خالية، في إقامة مملكة خاصة عليها، تحت سمع وبصر موظفي المحليات، الذين استفادوا كثيراً من هذا الوضع المختل.. وصارت المواجهة الحاسمة لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه، مقابلاً موضوعياً لضرورة الرضوخ للأمر الواقع، والقبول بقسمة الغرماء، التي تتحمل فيها الحكومة تكاليف باهظة، وعلى المواطن التنازل عن جزء من راحته وأمانه!.

لكن ذلك لم يكن أبداً، ولن يكون منهج الدولة المصرية، في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي أعلن أن كل يد ستمتد إلى ممتلكات الدولة أو حقوق المواطنين، ستعمل الدولة على قطعها.. والأمر هكذا.. فإننا ننبه إلى ضرورة المواجهة الحاسمة، لكل الميراث السيئ الموجود على مساحات الأرض، من المنيب، حتى اتصال المحور الجديد بالطريق الدائري عند روض الفرج.. لأنه، ومن خلال مشاهداتي، فإن البعض بدأ بالاستعداد لاستغلال الأراضي أسفل المحور الجديد هذا، كمواقف للسيارات، أو امتداد لورشهم، وما إلى ذلك.. وإن لم يكن التخطيط مانعاً في تصميمه، من إمكانية الاستيلاء على بقعه الفارغة، فلا نحاسبن إلا أنفسنا، لأننا تركنا الأمر رهن بمدى انصياع المواطن لتوجهات الدولة، لأن الكثير منهم لا يعمل وفق هذا المبدأ، وسلطانه المصلحة الخاصة به، ولتذهب كل القواعد إلى حيث ألقت.

خذ عندك.. لقد تحولت كباري المشاة فوق شريط السكة الحديد، بامتداد هذا المحور إلى سوق ضخمة للبائعين، الذين افترشوا مساحات هذه الكباري، حتى بات من العسير على المواطنين المرور فوقها، وقد تحولت أسوارها المعدنية، رغم جمال تنفيذها إلى معارض للملابس والبضائع المختلفة، فحولتها إلى قبح تنفر منه العين، قبل أن تضيق النفس بالاكتظاظ البشري فوقها، من بائع يعرض بضاعته ومشترٍ وقف ليستعرض هذه البضاعة.. فإذا وصل المواطن إلى قاعدة هذه الكباري العلوية، اصطدم بالباعة الجائلين، تملأ عرباتهم المكان، يبيعون الفاكهة والأحذية والإكسسوارات، وغيرها.. يطاردون المارة بنداءاتهم التي تصج الآذان.. وكأنه كتب على هؤلاء المارة العذاب، إذا ما أرادوا المرور بالصعود إلى كباري المشاة هذه أو النزول عنها.

إن استغلالاً جيداً للمساحات الموجودة أسفل المحور الجديد، يمكن أن يحقق المعادلة العادلة.. بين أناس يريدون أن يتكسبوا رزقهم، وبين مواطن يريد أن ينعم بالأمان والرحة في شارع خُصص من أجل سيره وقضاء مصالحة.. في هذه المنطقة، تتمركز مواقف عشوائية لسيارات النقل أمام العمارات، فتسد الطريق أمام الخارج أو القادم إليها من سكانها، وتخصيص موقف لهم، يكون بعيدًا عن حركة مرور الناس، لهو أمر ضروري، مع تغليظ العقوبة على كل من يترك مثل هذا الموقف، ويقف عشوائياً على قارعة الطريق.. كما أن استخدام بعض الفراغات في إنشاء "بكيات"، تكون مثابة محلات صغيرة، يلتزم بها الباعة لعرض بضائعهم فيها، بديلاً عن الشارع، سيكون أمراً حضارياً، ويعود بالنفع على محافظة الجيزة، من خلال الإيجارات الشهرية التي يتم تحصيلها من هذه "البكيات".. أما تنظيم ورش السمكرة والميكانيكا، وكل من استغل الطريق في الماضي، ليجعل منه امتدادًا لورشته، فهذا أمر حتمي.. يفرغ الشارع من إشغالاته، ويتيح حركة انسيابية للسيارات والمارة، ويمنع التلوث السمعي والبصري، إذا لم أقل البيئي، في وقت تنحو فيه الدولة نحو المحافظة على البيئة، ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً.

في أعقاب أحداث يناير 2011، قام البعض بردم المسطح المائي لترعة الزمر، مستغلين غياب الدولة، وأنشأ كل منهم مساحة من الأرض، جعلها موقفاً للسيارات بالإيجار الشهري، وحصدوا من ورائها الكثير من الأموال.. وقتها.. وفي أكثر من مقال، طالبت محافظ الجيزة الأسبق، الرجل المحترم، د. علي عبد الرحمن، بأنه إذا أصبح الأمر واقعاً، فلتفرض المحافظة على هؤلاء الذين استولوا على أرض الدولة، رسوماً شهرية، من عوائد تأجير المواقف للسيارات.. حينها، ولأول مرة، أطلعني المحافظ على مشروع محور المنيب- روض الفرج، الذي بات وشيكاً البدء في تنفيذه، منذ وزارة المهندس إبراهيم محلب، وأن الأمر لن يستدعي إجراءات مثل التي قلت بها، لأن الباقي من الوقت قليل.. ومع بدء المشروع، أزيلت المواقف المسروقة من الدولة، وراح كل صاحب سيارة يبحث عن موقف لسيارته في الأنحاء المجاورة، لأن المنطقة ضجت بالعمل، والوقوف أصبح خطراً.. لكن، ما إن أصبح المشروع وشيكاً على الاكتمال، وتوافرت أسفل المحور أماكن "فارغة"، حتى ظهرت السيارات من جديد، تتخذ من هذا الفراغ مواقف لها.. وأخشى أن تعود ريما لعادتها القديمة، وكأنك يا أبا زيد ما غزيت.

إن المواطن الذي تحمل مع الدولة، فاتورة الإصلاح وبناء مصر الجديدة، لينتظر، على أحر من الجمر، أن يرى دولته الجديدة، ليس في مبانيها وطرقاتها ومؤسساتها، بل في سلوكيات المصريين، الذي يجب أن تكون شيئاً مخالفاً عما كانت عليه من قبل.. سلوكيات تحترم القانون، وتخشى من قبضته القوية.. وذلك لن يتأتى إلا إذا تضافرت جهود المؤسسات الأمنية والإعلامية والقانونية، لتعزف جميعها لحناً جديداً يؤكد أن ما كان فات أوانه، ولن يعود ثانية.. وسيأخذ كلٌ حقه بالقانون، ولن يجور مواطن على حقوق مواطن آخر، حتى ولو في أمتار فارغة في الشارع، ليس من حقه سرقتها واستغلالها لصالحة، ضرباً للمصلحة العامة في مقتل.. 

حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.