رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مسرح الناس.. سعيًا لحياة كريمة.. الفلاحون يلعبون دور البطولة فى «شبرا بخوم»

مسرح الفلاحين
مسرح الفلاحين

فى إطار سعيها لإقامة علاقة جادة بين الفن والمجتمع تلقى «الدستور» الضوء على عدد من التجارب المسرحية المهمة التى غادر صناعها الجدران المغلقة، وخرجوا بفن المسرح للشارع المصرى باحثين عن جمهور مختلف من بسطاء المصريين، وعن موضوعات تمس واقع الحياة اليومية للمصريين.. وقد قررت «الدستور» نشر إضاءات على هذه التجارب إيمانًا بفكرة «العدالة الثقافية»، وهى إحدى استراتيجيات الدولة المصرية، وتحية لمشروع حياة كريمة الذى يهدف لتغيير حياة المصريين إلى الأفضل، حيث تؤمن «الدستور» أن المكون الثقافى فى هذا المشروع العملاق لا يقل أهمية عن المقومات المادية رغم أهميتها البالغة، وفى هذا الإطار تأتى أهمية إلقاء الضوء على تجربة مسرح «الجرن» أو «مسرح الفلاحين»، الذى تقوم فكرته الأساسية على النزول لأهل القرى فى أماكن حياتهم، وإسناد أعمال البطولة المسرحية للفلاحين المصريين بحيث ينكسر الحائط الذى يعزل المبدع عن المتلقى والنخبة عن الناس.. فى هذا العدد نلقى الضوء على إحدى أهم هذه التجارب، على أن نلقى الضوء على تجارب أخرى فى الأعداد المقبلة.

فى بحثه الدءوب عن جوهر المسرح، يرى جرتوفسكى أنه يمكن للعمل أن يتم دون مكياج أو ديكور أو أزياء أو إضاءة أو مؤثرات، لكنه لا يمكن أن يوجد دون تلك العلاقة «الحية» بين الممثل والمتفرج.

هذه الدعوة تُبنى فى الأساس على رفض تام لكل آليات المسرح، لذا كانت دعوته المستمرة للخروج من أسر الخشبة أو مسرح العلبة إلى فضاءات أرحب، فيرى أن أرض المسرح يمكن أن تكون بحرًا أو مائدة أو مسند مقعد أو قاربًا أو زنزانة سجن.

هذا التصور الشكلى يأتى من تصور موازٍ ينبثق من الروح الإنسانية، فقد كان يهتم بـ«عرض العملية الروحية للممثل»، لا يشترط فيه أن يكون محترفًا، فالمهارة التمثيلية إنما تتأتى بإقامة ورش فنية تهتم بطرق الأداء المختلفة فى محاولة لبناء نسق جديد يعتمد على اختراق حاجز اللحظة الشعورية لدى المتلقى.

ولن يتأتى ذلك إلا بالاندماج الكامل، أو على حد تعبير ستنسلافسكيك: «إن الممثل يجب أن يكون قادرًا على التعبير- بالصوت- عن تلك الدفعات التى تتذبذب على الحدود الفاصلة بينه والحقيقة، إنه باختصار يجب أن يكون قادرًا على أن يبنى لغة التحليل النفسى الخاصة به للأصوات على نفس النحو الذى يبنى به الشاعر العظيم قصيدته من كلمات».

وهو يقصد بذلك القفز على الحواجز الفاصلة بين الممثل باعتباره مؤديًا، وبين شخصيته الحقيقية فى الحياة، ومن ناحية أخرى تفتيت الهوية بين شخصية الممثل والجمهور، فى محاولة لإقامة جدلية مسرحية تتوازى مع العرض بفضاءاته المختلفة، دون طغيان معرفى لفكرة «التكنيك».

ومن الذين التقطوا هذه الرؤية وحاولوا تطبيقها فى مصر المخرج أحمد إسماعيل، الذى تعتبر تجربته من أكثر التجارب استمرارية وحفرًا فى أرض الإبداع المسرحى، من خلال تقديمه نموذجًا مسرحيًا خاصًا بقرية «شبرا بخوم»، إحدى قرى محافظة المنوفية.

تزامن اهتمام أحمد إسماعيل بالنشاط المسرحى مع التحاقه بالمعهد العالى للفنون المسرحية الذى تخرج فيه عام ١٩٧٥.

وأسس ابن قرية «شبرا بخوم» مع صديقه الراحل أحمد عبدالعظيم الفرقة عام ١٩٧٣، وهو لم يزل طالبًا بالفرقة الثانية، وفى الفترة ما بين ١٩٧٣ و١٩٧٧ قدمت الفرقة عدة عروض، كانت عبارة عن مسرحيات ذات فصل واحد، بالإضافة إلى تقديم مسرحية «الزوبعة» تأليف محمود دياب، التى كانت بمثابة ختام للمرحلة الأولى.

وفى عام ١٩٧٧ سافر المخرج أحمد إسماعيل لدراسة المسرح فى فرنسا، ثم عاد بعدها عام ١٩٧٩ ليجدد فى الإطار التنظيمى للفرقة من خلال الإبداع الجماعى.

وقام هذا الإبداع على جمع كل ما يتعلق بالقرية من مشكلات اقتصادية واجتماعية، وعلى المستوى الفنى كل ما يتعلق بفنون الأداء الشعبى من جمع للأغانى والحكايات الشعبية، مع إعلاء قيمة المقاومة، للأغانى الشعبية والأمثال والمواويل والحكاوى.

وتم تدعيم الفرقة بالمواهب الفنية الفطرية لدى الفلاحين، الذين وصل عددهم- فى ذلك الوقت- إلى ٢٠ رجلًا و٤ فتيات، وفى هذا الإطار تم تقديم عدة عروض، كان من أهمها «سهرة ريفية»، وهى تجربة فى الإبداع المسرحى الجماعى، قُدمت على ثلاثة أجزاء أعوام ١٩٨٢ و١٩٨٤ و١٩٨٦، ولاقت كثيرًا من الاستحسان النقدى.

و«السهرة الريفية» فى أجزائها الثلاثة تناولت مشكلات القرية المصرية، حيث أزمة الإنتاج وأزمة الغذاء، وكيف تحولت قوى الفلاحين المنتجة إلى قوى مستهلكة، وما استتبع ذلك من مشكلات أكبر، واستخدمت الفرقة الأغنيات الريفية والألعاب الشعبية والارتجال لتحقيق صيغة فنية يحدث من خلالها التواصل.

وتحول المسرح فى هذا العرض إلى ظاهرة اجتماعية كاملة الأركان، بصرف النظر عن الشكل السردى العادى لمشكلات الحياة اليومية للناس، دون استخلاص أبعد مدى من التفصيلات، لكنه عمل يفتح الطريق، بقوة، أمام تجارب مشابهة تُطرح من واقع الأرض التى تعمل عليها.

من وجهة نظرى، فإن أحمد إسماعيل لعب فى منطقة شديدة الخصوبة، وهى إنتاج ما يمكن أن يسمى «المسرح داخل المسرح»، بمعنى أنه قدم العرض برؤيتين مختلفتين فى نفس الوقت.

جاء ذلك عبر فكرة التحرر من التشخيص، بعد أن أشرك مجموعة من الأطفال فى العرض ليعيدوا تمثيل المشاهد التى أداها الممثلون مرة أخرى، ليعود المشهد كله إلى الطفولة، فى لعبة مسرحية جذابة ومفرحة فى آنٍ واحد.

واللافت للنظر أن العرض- فى جوهره- كان يناقش أحوال أهل القرية، وقد حضر الجميع ليشاهدوا أنفسهم وقد جُسدت شخصياتهم على خشبة المسرح.

وأثبت هذا العرض- عن طريق التجربة- أن العمل المسرحى الحقيقى لا يعترف بقلة الإمكانات، وإنما هو الذى يتكئ على قدرة استنساخ الواقع ومناقشة قضاياه بلغة بسيطة، وإن اعتمدت على بعض تقنيات المسرح التقليدى بشكل به قدر كبير من المزاوجة بين روح المكان وفضاءات التقنية.

وبعد عرض «سهرة ريفية» تحقق كثير من أغراض الفرقة، أهمها أن يكون خطابها المسرحى معبرًا عن القرية، من خلال خصوصية الأداء، ومصداقية التعبير بخطاب نقدى، لكشف أى زيف أو عدوان يمارس ضد البسطاء والمهمشين من أهلها.

وعلى حد تعبير المخرج أحمد إسماعيل: «أصبحت الفرقة بمثابة برلمان القرية، يحضر إليها كل من عنده شكوى أو هَمّ».

فى تلك الأثناء كانت فكرة تطوير بناء المسرح الذى صممت خشبته على هيئة دائرة، ومدرجات الجمهور البسيطة تحيط بها من نصف محيطها، فكأن خشبة المسرح تحتضن المدرجات، ما يجعل الجمهور فى قلب العرض والعكس.

وأسهم فى بناء هذا المسرح أبناء القرية بمجهود ذاتى، فقد تبرع الأهالى كلٌ قدر استطاعته، رغم أنه لم يتكلف إلا مبلغًا ضئيلًا، نظرًا لأنه لا يحتاج إلى تقنيات كثيرة، وعلى خشبته تم تقديم «سهرة ريفية» استعدادًا للمشاركة فى مهرجان القاهرة الأول للمسرح التجريبى.

وفى عام ١٩٨٨ أعادت الفرقة عرض «الشاطر حسن»، تأليف فؤاد حداد ومتولى عبداللطيف، الذى قدمته لأول مرة عام ١٩٨٤، من خلال بناء درامى جديد يهتم بالآليات الفنية فى المسرح الشعبى، مع إعلاء قيمة المقاومة، واستمر عرضه ٣٠ ليلة، كما تم عرضه، أيضًا، فى قصر ثقافة الغورى.

بعد ذلك قدمت الفرقة عرض «ليالى الحصاد»، من تأليف محمود دياب، وذلك فى ٣٠ ليلة عرض، عام ١٩٩٩، وهو نص يقوم على فكرة السامر الشعبى، من خلال حكاية عن قرية يجلس أهلها يتسامرون فى المساء، ويقومون بتشخيص بعضهم بعضًا، ومن خلال هذه اللعبة- ذات الأقنعة- يطرحون مشاكلهم وقضاياهم الاجتماعية وأفكارهم وأحلامهم.

يقول أحمد إسماعيل: «نحن نحتاج للمسرح فى كل مكان.. القرى المصرية التى تصل إلى ٥ آلاف قرية- بمعدل نصف تعداد سكان مصر- ليس بها نشاط مسرحى، باستثناء بعض التجارب القليلة جدًا، والتى لم تستمر».

وأضاف: «فى هذا الوضع نحتاج إلى مسرح بسيط وغير مكلف، ويعتمد على الفضاءات الموجودة فى القرى، وعلى الطقس المعتدل معظم شهور السنة، وعلى الإمكانات الثقافية المحلية أولًا».

وواصل: «بنينا مسرحًا يتسع لعدد محدود من الجمهور، وتنتظم فيه المشاهد لعدد من الأيام، ولا يحتاج إلى أجهزة مكلفة.. مسرح أقرب إلى طبيعة حفلات السمر فى القرية، بنيناه فى مقر جمعية تنمية القرية- ذات صفة أهلية- ويستوعب ٧٥٠ متفرجًا».

وأكمل: «اتبعنا نظامًا يحقق فرصة المشاهدة العادلة لكل أهالى القرية، وذلك بتوزيع الدعوات على كل بيوت القرية، بحيث تعرف كل أسرة يوم حجزها بالمسرح، وبذلك يستمر العرض ليصل إلى ٣٠ ليلة».

ولعلنا هنا نلمس سببًا رئيسيًا فى عدم استمرار تجارب المسرح فى القرى، فإنه دون فضاء محدد ومحكوم، يستحيل إقامة احتفال مسرحى ناجح؛ بسبب الازدحام الكبير وفوضى الأطفال والتعامل مع الموضوع وفق تعامل القرية مع المولد، وإن ينجح ذلك فى المولد لأسباب عديدة، إلا أنه لا ينجح فى الاحتفال المسرحى لطبيعته الفنية المختلفة.

وقد كان هذا الجانب من أهم الجوانب التى أثرت بالسلب على بعض تجارب مسرح القرية أو الأماكن المفتوحة، لأن تنظيم الجمهور يحتاج إلى رؤية متكاملة تعالج مفهومه، وتعطى منظورًا لرؤية العرض بشكل واضح ولسماع حواره وموسيقاه.

كل ذلك مع هذا العدد الضخم يحتاج إلى مجهود وتقنية وأجهزة غير موجودة، وإن وجدت فى مصر فهى باهظة التكلفة.

المطلوب كان مسرحًا بسيطًا يتماشى مع بساطة القرية، تتحقق فيه المشاهد الجيدة أو المشاركة الفعالة، دون حاجة إلى إمكانات تقنية مكلفة.