رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بزوغ فجر (الدولة الرئيسية)

تعتمد مصر، منذ فترة طويلة، على الدبلوماسية لحل خلافاتها مع إثيوبيا حول سد النهضة.. لكن يبدو أن مسار المفاوضات قد استنفد، أو ما يقترب من ذلك.. وهي لا تعارض السد الإثيوبي في حد حده، ولكنها حذرة للغاية من تأثيره المحتمل على تدفق مياه النيل، إذا رفضت إثيوبيا التوقيع على اتفاق ملزم قانوناُ بشأن كيفية إدارة عمليات ملء وتشغيل السد.. وتخشى أن يؤدي السد إلى هلاك الزراعة وإهدار مساحات واسعة من أراضيها الصالحة للزراعة، مما يؤدي إلى جفاف وبطالة هائلين.. ومن ناحية أخرى، ترى إثيوبيا أن السد حيوي لاحتياجاتها الإنمائية، وإمدادات الكهرباء لسكانها.. ومع ذلك تعارض توقيع اتفاق يحقق مصلحة كل الأطراف، في ظل حرص مصر على علاقاتها بدول القارة، وتحقيق مصالح بلدانها، ومثال على ذلك تنزانيا، حيث تستثمر مصر في سد جوليوس نيريري الكهرومائي الضخم على نهر روفيجي.. وهو ما يعد نموذجاً على استعدادها للمساعدة في تنمية بلدان حوض النيل.. وهذه هي بالضبط الرسالة التي تحاول مصر ـ التي ليس لديها مصادر رئيسية أخرى لمياه الشرب والزراعة غير نهر النيل ـ نقلها إلى الرأي العام العالمي.
تضم الجمعية الجغرافية المصرية، التي تأسست في عام 1875، بعض المخطوطات القيمة التي تعكس اهتمام مصر الطويل الأمد بإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.. ومن بينها خريطة تاريخية تظهر الحدود الجنوبية لمصر عند بحيرة فيكتوريا في شرق إفريقيا.. تأسست هذه الجمعية في ذروة الطموح الإمبراطوري المصري الذي لم يدم طويلاً، والذي وضع السودان تحت السيطرة المصرية وسعى إلى غزو إثيوبيا في حملة عسكرية من عام 1874 إلى عام 1876.. وبعد حوالي 70 عاماً، حملت مصر لواء المناهضة للاستعمار في إفريقيا وخارجها.. ولكن مع الحروب العربية الإسرائيلية، تضاءلت مشاركتها مع إفريقيا.. إلا أن السنوات القليلة الماضية، شهدت إعادة مشاركة كبيرة، لا سيما مع بلدان حوض النيل.. وقد وقعت مصر سلسلة من الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية مع أوغندا وكينيا وبوروندى ورواندا وجيبوتى خلال الشهور الاخيرة.. وتوصلت القاهرة بالفعل إلى اتفاقات اندماج كبيرة مع السودان، حيث أجرت مؤخراً مناورات عسكرية مشتركة، شاركت فيها طائرات حربية وقوات خاصة.. وربطت مصر شبكة الكهرباء بها مع السودان، ويجري العمل على ربط شبكات السكك الحديدية أيضاً، مع رؤية كبرى لتشغيل خدمة القطارات من الأسكندرية إلى كيب تاون.
تغيير مصر لتوجهها وتركيز سياستها الخارجية تجاه إفريقيا تأخر كثيراً، ولكن، كما نقول المصريون، (لسه الأماني ممكنة).. فالنفوذ في السياسة الحديثة لم يعد مجرد مدافع وطائرات، إذ أن الروابط التجارية القوية يمكنها أن تحقق أكثر بكثير من العضلات العسكرية.. لا أحد يقول إن على مصر شراء أي شيء لا تحتاج إليه من هذه دول حوض النيل التسع، ولكن، على سبيل المثال، تنتج دول حوض النيل كميات هائلة من البن عالي الجودة، في حين تستورد مصر البن بأكثر من 95.5 مليون دولار سنوياً، 95٪ منها من خارج إفريقيا.
عربياً.. اختفت مصر من الشرق الأوسط، بعد الخريف العربي عام 2011.. من الصعب تحديد متى بدأ هذا التحول، لكن نقطة التحول القوية، كانت إنشاء منتدى الغاز الإقليمي في فبراير 2019، الذي يضم مصر وإسرائيل واليونان وقبرص وإيطاليا والأردن والسلطة الفلسطينية.. وأتاحت العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة، مايو 2021، لمصر فرصة أخرى لتعزيز مكانتها في المنطقة، من خلال التوسط مع حماس.. ولطالما لعبت مصر دوراً رئيسياً في الوساطة بين إسرائيل وحماس، ولعبت مصر دوراً أساسياً في تحقيق وقف إطلاق النار والمساعدات الإنسانية.
إن مشاركة مصر في غزة أمر مفهوم.. أولا، لأنها جيب يقع على طول حدودها، وهو برميل بارود محتمل يهدد استقرار المنطقة، بشكل عام، وتحديداً في مصر.. ثانيا، يسمح ذلك للإدارة الأمريكية بتصوير نفسها على أنها زعيم إقليمي في قضية رئيسية في الشرق الأوسط.. وبنفس القدر من الأهمية، توفر وساطة مصر ختم الدور الأمريكي في واشنطن، أتاحت مكالمتين هاتفيتين أجراهما الرئيس الأمريكي بايدن مع الرئيس عبد الفتاح السيسي كانا حديث العالم.. كما أدت عملية غزة الأخيرة، إلى دفء العلاقات المصرية الإسرائيلية.. ولم تعزز الوساطة المصرية العلاقات الأمنية الثنائية فحسب، بل رفع أيضاً العلاقات الدبلوماسية، المصرية ـ الإسرائيلية ـ الى مستوى جديد، منذ 13 عاماً مضت.. كما أتاحت عملية غزة والوساطة المصرية لمصر فرصة لتجديد دورها النشط في الساحة الخليجية.
وفي حين احتلت غزة معظم العناوين الرئيسية، أصبحت السياسة الخارجية المصرية أكثر وضوحاً في المجالات الأخرى.. إحدى الساحات هي ليبيا.. دعمت مصر اللواء خليفة حفتر وحكومته في طبرق، ولكن منذ تأسيس حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس بدعم من الأمم المتحدة، استضافت رئيس الوزراء الجديد عبد الحميد الدبيبة.. ومن الآن فصاعدا، لن تشكل القوات الليبية المدعومة من تركيا وقطر تهديداً على الحدود الغربية لمصر.. كما يشير الانفتاح الأخير بين تركيا ومصر إلى اتفاقات وتفاهمات حول العديد من القضايا الخلافية التي تعكر صفو علاقتهما.
إن النشاط المتنامي لمصر في القرن الإفريقي والبحر الأحمر مثير للاهتمام بنفس القدر.. وفي نوفمبر 2020، انضمت القاهرة إلى مجلس البحر الأحمر، الذي يمثل جيبوتي وإريتريا والأردن والمملكة العربية السعودية والصومال والسودان واليمن.. كل هذه التحركات تهدف إلى إظهار مكانة مصر في البحر الأحمر ومضيق باب المندب.. يقول أستاذ في قسم الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية في الجامعة العبرية في القدس، إيلي بوده، إن القيادة الإقليمية لمصر تكتسب رأس مال سياسي واقتصادي وعسكري وديموجرافي.. وقد بنت مصر في السنوات الأخيرة جيشاً كبيراً، يعكس مدى استعدادها للتعامل مع التحديات المختلفة، وطاقاتها المتجددة، التي تفجرت على أرضها، يمكن أن تحولها إلى ما أطلق عليه الراحل، محمد حسنين هيكل، (الدولة الرئيسية).. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.