رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ملك «عربيد» وشعب ينافق «السماء»

هل تدخلت مسألة التدين فى تحديد نظرة المصريين إلى الملك فاروق؟ التجربة تقول إن التدين يشكل أحد المعايير التى يستند إليها الوجدان الشعبى فى تقييم مَن يحكمه.. كان فاروق منذ توليه الحكم، بعد أن أتم ثمانى عشرة سنة هلالية، حريصًا على الظهور بمظهر الملك المتدين، ونشر صوره وهو يؤدى صلاة الجمعة والمسبحة الشهيرة فى يده، وصوره وهو يحضر مجالس تلاوة القرآن الكريم داخل السرادقات التى يقيمها بساحة قصر عابدين فى رمضان، ويقرأ فيها أشهر قُرّاء القرآن، وتترنم بالابتهالات أعذب الحناجر التى عرفها المصريون فى ذلك الوقت.

يذكر الحكّاء الكبير محمود السعدنى، فى كتابه «ألحان السماء»، أن الملك كان حريصًا على دعوة أشهر مُقرئى عصره لتلاوة القرآن الكريم فى القصر خلال شهر رمضان، وأن القارئ الوحيد الذى لم يكن يستجيب له هو الشيخ محمد الصيفى، رحمه الله، واعتذر لناظر الخاصة الملكية بأن صحته لا تساعده، وقال له إن الملك يمكن أن يستمع إلى تلاواتى فى الراديو، مثله مثل الناس.. صور فاروق وهو منصت إلى آيات الذكر الحكيم فى السرادق الضخم الذى كان يقام أمام قصر عابدين كانت تنقلها الصحف وتنتشر بين الناس لتقدمه فى هيئة الملك المتدين.

هذه الصورة بدأت تهتز بمرور الوقت، وبعد أن كان الملك الشاب رمزًا للاستقامة والإيمان، تحول إلى رمز للفسق لدى قطاعات يُؤبَه لها داخل المجتمع المصرى، وهذا التحول فى الصورة هو الذى أدى إلى خروج المظاهرات ضد فاروق أواخر عهده.. يذكر عبدالرحمن الرافعى، فى كتابه «مقدمات ثورة يوليو»، أن «الشعب خلال هذه السنين عرف مساوئ فاروق ومفاسده، عرف عنه مغامراته النسائية وسلوكه الشائن فى هذا الصدد، وغشيانه مجالس الميسر ولعبه القمار علنًا أمام الناس، وسرقاته فى القمار وغير القمار، وقضاء السهرات الماجنة فى الأندية الليلية.. وقد اجتمعت هذه المساوئ والمفاسد فأثرت فى نفوس المواطنين سخطًا وغضبًا على فاروق، فكانت مظاهرات ديسمبر ١٩٥١».

مثل كل ملوك العالم، كان فاروق قريبًا للغاية من عدسات الإعلاميين، وكان الصحفيون يتسقطون أخباره من كل المصادر، وينشرون ما يتيسر نشره فى الصحف، لم تكن هذه الأخبار تخلو من حقيقة، كما أنها لم تكن بريئة من المبالغة، فاختلط فيها الحقيقى بالزائف والواقعى بالمتخيل، لكن نسبة لا بأس بها من القراء كانت تستقبلها كحقيقة، ولا تحاول التدقيق فيها، فانتشرت العديد من المعلومات والشائعات عن فاروق أدت إلى تعديل فى صورته لدى الرأى العام كملك متدين ليوضع فى كادر الملك العربيد.

ربما كان بعض المصريين حتى من البسطاء يعربدون كما كان يعربد فاروق، ويتعاطون المكيفات ويلعبون الورق ويأتون الكثير من الأفعال التى تتناقض مع قيم ومفاهيم التدين، لكنهم يعتبون على الحاكم أشد العتب حين يقع فى الموبقات، ويعد هذا النمط من الأداء جزءًا من تركيبة التدين لدى المصريين، حين يظن أحدهم أن بإمكانه نفاق السماء أو خداعها، عن طريق شجب- وأحيانًا سب- من يقع فى المفاسد، التى ربما يكون مَن يشجبها أو يدينها غارقًا فيها حتى أذنيه.

فى هذا الوقت كان يجلس على كرسى الإفتاء فى مصر الشيخ عبدالمجيد سليم، وحدث أن تلقى- كما يحكى سعيد عبدالرحمن فى كتابه «شيوخ الأزهر»- سؤالًا حول حكم الشرع فى رجل يُراقص النساء، ويشرب الخمر فى الحفلات، ويرتكب أعمالًا يحرّمها الإسلام، وكان المقصود بهذا السؤال ما يقام فى القصر الملكى من حفلات ماجنة فى قصور الأمراء والأميرات ويحضرها الملك فاروق، ويجرى فيها من فنون الخلاعة واللهو والعربدة ما يأباه الإسلام.. فأصدر فتوى بتحريم كل ذلك، وأدركت الدوائر الرسمية أن المقصود بالفتوى هو الملك، واتصل فاروق بالشيخ المراغى، شيخ الأزهر، وطلب منه ألا يسمح بنشر أى فتوى للشيخ عبدالمجيد سليم إلا بعد أن يطلع عليها.

أظن أن ما ذكره «سعيد عبدالرحمن» فيه قدر من المبالغة ولا يعبّر عن حقيقة الواقع خلال هذه الفترة بموضوعية، فقد سبق وتحمل الملك فاروق من الشيخ عبدالمجيد ما هو أشد وأصعب، حين عارض الأخير مسألة تعيين الشيخ مصطفى عبدالرازق على كرسى مشيخة الأزهر، وتقبل نقده لما ينفقه الملك على مصيفه فى كابرى حين قال: «تقتير هنا وإسراف هناك»، وقصد بالتقتير ضغط ميزانية الأزهر، وعنى بالإسراف حجم إنفاق الملك على مصيفه، كما أن الملك لم يمانع فى تعيين عبدالمجيد سليم شيخًا للأزهر فيما بعد، رغم ما هو معروف عنه من وضوح فى الرأى وصرامة فى الفتوى.

تستطيع أن تضرب ما أشيع عن لهو فاروق وعبثه بعد ثورة يوليو ١٩٥٢ فى عشرة إذا قورن بما أشيع قبل هذا التاريخ، ويمكن تفهم ذلك فى سياق سعى حركة الضباط الأحرار إلى تأكيد شرعية جمهورية جديدة، وهو الأمر الذى كان يدفعهم إلى سحق أى مستوى من الشعبية لفاروق فى الشارع.

دافع فاروق عن نفسه فى مذكراته، ونفى ما لصق به من اتهامات بالفساد الأخلاقى قبل ثورة يوليو وبعدها، وربما كان فى ذلك مثل أى إنسان يحاول أن ينظف صورته أمام الشعب الذى حكمه ما يقرب من ١٦ عامًا، لكنك لو طالعت كتاب «كريم ثابت» المعنون بـ«ملك النهاية» فسوف تجد أن الرجل الذى عمل مع فاروق كمستشار صحفى لفترة تقترب من ١٠ سنوات يثبت أشياء وينفى أشياء، فهو يثبت أن فاروق لعب القمار فى نادى السيارات، لكنه تمكن من الإقلاع عن هذه العادة، كما كان حريصًا على أن يدعم صورته كزير نساء لعُقد نقص بداخله- كما يذهب «ثابت»- وفى المقابل نفى عنه تمامًا شرب الخمور، وما أشيع من أنه كان يفرط فى الشرب حتى يسكر، وربما يكون قد جرّب الخمر فى فترة، ظنًا منه أنها تزيد حيوية الرجل، ولما أدرك سخف الفكرة أقلع عن ذلك، كما كان بسيطًا فى مأكله وملبسه على عكس ما تم الترويج له، بعيدًا عما نُسج عنه من أساطير خيالية.