رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المصداقية بين المُبالغة والمُراوغة

قديمًا كانت هناك شركة تُجارية يُطلق عليها شركة الوجوه، وهي كانت تتم بين شخصين أو أكثر على الاشتراك فيما يُباع ويُشترى بأجل، بضمان وجاهتهم وسُمعتهم الاجتماعية، ويبيعون نقدًا فيكون لهم الربح وعليهم الخسارة بنسبة ما يشتريه كل منهم، وهذا النوع من الشركات يقوم على ثقة التجار بالشركاء، وعليه فكلمة "الوجوه" المقصود بها الوجاهة الاجتماعية القائمة على الأصل الطيب، والسمعة الطيبة، والسيرة الطيبة، لأن هذه العناصر هي التي تخلق الصدق والمصداقية.

والحقيقة أن أغلب الأحكام التي يحكمها الناس على الإنسان نابعة في الأساس من الفكرة المُسبقة المأخوذة عن هذا الشخص، لذا نجد أن أغلب الجلسات العُرفية تميل إلى الحكم بناءً على سمعة الخُصوم وسيرتهم بين أقرانهم، في حالة ضعف وجود الحُجج والقرائن، ولذا نجد أن الأحكام العُرفية التي تصدر تكتسب قوتها من التزام الخصم المحكوم عليه بكلمته أمام المُحكمين والشهود، فهو لا يستطيع أن يتنصل من عهده، حتى لو كان الحكم ليس في صالحه، حتى يُحافظ على وجاهته بين أقرانه.

ومن هنا أتساءل، هل ما زالت تلك الأفكار المثالية موجودة في حياتنا، أم أن فكرة تحقيق الكسب سواء المادي أو المعنوي، والتنصل من الخسائر بشتى أنواعها بات هو القاعدة الأصولية الراسخة؟! فالإنسان في الماضي كان يُرْبط من لسانه دون الحاجة إلى شهادة شهود، أو قسم أو يمين، فهو كان يحترم التزاماته، لأن في ذلك الاحترام احتراما لنفسه وذاته أولاً، فهو كان يخشى على سمعته بين الناس، فلا يقبل فكرة أن ينعته الآخرون بالكذب أو المُراوغة، حتى لو كانت كلمته تلك ستكبده العديد من الخسائر، فكانت بالنسبة له أقل بكثير من خسارة وضعه، وهيبته، وسُمعته.

فالحقيقة أن الناس جميعًا يتفقون في حب المصداقية، حتى الكاذب منهم لا يُؤْثر التعامل مع الكاذب، لأنه يبحث عن المصداقية، لذا نجد أن هناك أشخاصا تفوقوا على خُصومهم السياسيين بتأييد الناس لهم بسبب مصداقيتهم، رغم أنهم كانوا لا يملكون ما يملكه خصومهم من شهادات علمية، وأرصدة بنكية، وعلاقات اجتماعية، فشهادتهم الكلامية كانت أقوى، ورصيد سمعتهم كان أكبر، وعلاقاتهم الإنسانية كانت أشد وأبْقى.

فأذكر قصة طريفة تحكي عن هُدهُد وغُراب تنازعا يومًا ما على حفرة ماء، فكل منهما يدعي بأن الحفرة له، واختصما ولم يستطيعا حل الخلاف بينهما، وبعد نزاع طويل اتفقا على أن يحتكما إلى قاضي الطيور، فذهبا إليه وسردا عليه قصتهما، فطلب من كل منهما البينة على صحة ادعائه، فمَنْ يملك البينة تكون الحفرة من نصيبه، فنظرا إلى بعضهما والتزما الصمت، وعندما طال صمتهما، علم القاضي بأنه لا بينة لواحد منهما على الآخر، ثم ما كان من القاضي إلا أن حكم بالحفرة للهُدهُد!! فسأله الهُدهُد مُتعجبًا: "لِمَ حكمت لي بالحفرة أيها القاضي؟!"، فرد القاضي قائلاً: "لقد اشتهِر عنك الصدق بين الناس، فقالوا أصدق من هُدهُد"، فصمت الهُدهُد للحظة، ثم قال: "إن كان الأمر كما قلت، فإني والله لست ممن يُشتهر بصفة ويفعل خلافها، هذه الحفرة للغُراب، ولئن تبقى لي هذه الشهرة أفضل عندي من ألف حفرة".

فهل تعلم ما هي المصداقية؟ فهي في الأساس أنك لو اضطررت لأن تشهد على نفسك في سبيل نُصرة الحق، فلا تتوان للحظة عن فعل ذلك، وهي أن تُحافظ على صدقك مع الآخرين، حتى لو كبدك هذا الكثير من الخسائر، وأن تصدق نفسك الحديث، لأن الصدق يبدأ مع النفس أولاً. ولكن للأسف، ونظرًا لأن الصدق والمصداقية أصبحا من العملات الصعبة النادرة لم يعد التعامل بين الناس قائمًا على أساس الثقة الكاملة والمُتبادلة، حتى في عالم الميديا أصبح النجاح مُقترنًا بتحقيق نسبة مُشاهدة عالية، وتلك النسبة لا تشترط المصداقية، بقدر اشتراطها مقدار لفت الانتباه بالأحداث المُثيرة التي لا تخلو من المُبالغة غير المنطقية.

والسؤال الآن، لماذا ترنحت المصداقية بين المُبالغة المرفوضة، والمُراوغة المنبوذة؟!