رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«العتبة».. محطة مترو «كوفيد- 19» ومتحوراته

 

احتجتُ الأسبوع الماضى إلى قضاء عدة مشاوير فى حى مصر الجديدة، ولأننى من سكان منطقة وسط البلد فقد فكرت أنه مع ارتفاع كثافة زحام السيارات بصورة غير طبيعية، فى كل شوارع القاهرة الكبرى، منذ أكثر من شهر تقريبًا، فربما يكون من الأفضل لى استخدام خط المترو، خصوصًا أننى ممن كانوا يجدون متعة فى استخدام ذلك الخط عند بداية تشغيله، إذ كانت رحلته أقرب إلى الفسحة اللطيفة، التى تستمتع خلالها بناسه من طالبات وطلاب جامعة عين شمس، وكلية البنات، وبعض سكان الحى والأحياء المجاورة، إضافة إلى مقاعده المريحة، وندرة الزحام بين ركابه، وبناء عليه قررت أن يكون هو وسيلة مواصلاتى فى تلك المشاوير، ويا ليتنى ما فكرت ولا فعلت..

منذ اللحظة الأولى لدخولى محطة «العتبة»، التى هى فى أبسط توصيف لها «سوق وصاحبه غايب»، وجدتنى فى حالة فزع غير طبيعية، أو قل انتابتنى نوبة عجب واندهاش هستيرية، حتى إننى فكرت فى الهروب بأقصى سرعة إلى أقرب مخرج من تلك الورطة التى وجدت نفسى منساقًا إليها وفيها، لكن حتى هذه الفكرة لم أعرف طريقة لتنفيذها، فكل اللوحات الإرشادية لا تدلك على شىء، لأنك إن تتبعت لوحة «خروج» لا تجد بعدها بخطوات غير لوحة أخرى «إلى رصيف الخط الثانى، شبرا المنيب»، ثم ثالثة «إلى رصيف خط عدلى منصور»، يليها مخرج مغلق، ثم حشد من الناس فى انتظار التطعيم من فيروس «كورونا المستجد»، فساحة صلاة جانبية لا تخلو ممن فاتتهم صلاة الجماعة، أو يخطفون ركعتى سنة، ثم محلات للأطعمة والملابس واكسسوارات المحمول، فإذا حاولت أن تطمئن نفسك بأن هناك غرامات كبيرة وتعليمات صارمة من الحكومة بشأن الإجراءات الاحترازية للحد من انتشار فيروس كورونا، فلن تجد لهذه التعليمات أثرًا، لا بين مواطنين ولا كائن من يكون.

ربما يسعدك الحظ وترى واحدًا أو واحدة ترتدى الكمامة، تلك القطعة التى قالت الوزارة إنه لا غنى عنها، وإنه سوف يتم توقيع غرامة فورية على مَن لا يرتديها، لكنك لن ترى إلا عشرات أو آحادًا يرتدونها، وسط مئات ممن يتزاحمون، ويتلاصقون أو يسيرون فى طوابير السائرين نيامًا كالقطيع المتحرك والمتنقل بين أرصفة المحطة المتاهة، بلا أقنعة، ولا مطهرات، ولا مسافات، ولا أى إجراءات من تلك التى تبثها الإذاعات الداخلية للمحطات.

على أن الأمر لا يخلو من بعض المشاهد اللافتة، إذ يمكنك مثلًا، وبعد الوصول بسلام، أو دونه، إلى عربة المترو التى لا تزيد حمولتها على سبعين مواطنًا، فتجدها وقد تكدست بما يزيد على ضعف هذا العدد، مرات ومرات، ويحدث أن ترى صبيًا بصحبة والدته وجدته، كما حدث ورأيت بعينى، فتكتشف أن الصبى وحده هو من يرتدى الكمامة، بينما تزاحم والدته، مكشوفة الأنف، الجميع بحثًا عن مقعد لأمها العجوز، فإن حاولت أن تبتعد عن الزحام، أو تلفت نظر سيدة إلى عدم الاقتراب منك أكثر من اللازم، تنظر لك نظرة من وجد نفسه بجوار كائن فضائى، أو طائر مجنح.

والحقيقة أن هناك سرًا لم أستطع أن أفهمه منذ بداية ظهور فيروس كورونا المستجد ومتحوراته، قبل عامين من الآن، خصوصًا فيما يتعلق بتعاملنا معه هنا فى مصر، وفى تعامله معنا أيضًا، فحسب بيانات وتحذيرات وزارة الصحة والسكان، ومنظمة الصحة العالمية، وحسب آليات تجاهلنا كمصريين، واستهانتنا بهذا الفيروس القاتل، واعتباره كأى عارض آخر يمكن القضاء عليه وهزيمته «بفحل بصل»، كان المفروض أن تصل الإصابات والوفيات إلى أعداد لا طاقة لنا بها، لكن حتى لو تصورنا أن من أُصيبوا به أضعاف أضعاف الأرقام المعلنة، فإنه أيضًا يعنى أن الفيروس يتعامل معنا بلين ولطف وهوادة لم يفعلها مع بلاد أخرى انتشر فيها بشراسة، وكانت نتيجته فيها وفيات كارثية، رغم التزامها الصارم بكل التعليمات الصادرة عن منظمة الصحة، وحكومات تلك الدول!

ما رأيته بعينى، وفزعنى، وحاولت الهروب منه بكل السبل، من تزاحم يصل إلى حد الالتصاق، واستهانة بكل ما قيل، ويقال، بشأن عقوبات عدم الالتزام بالإجراءات الاحترازية، جعلنى أوقن أن هناك سرًا فى هذه المحطة لا يعلمه إلا الله.. جعلنى أوقن أننا «غلابة قوى»، وأن يد الله الحانية، وعنايته ورحمته، هى وحدها من يحمى هذا البلد، ويمنع عنه كل بلاء.

نعم.. هى يد الله وحدها مَنْ يحمى هؤلاء الذين يسيرون بأرجلهم إلى التهلكة.. فلا تصيبهم!