رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«عاش هنا».. تحية مصرية حضارية لصناع مجدها

لوحة نحاسية بها قليل من المعلومات ترفع شعار "عاش هنا"، ثم تذيل باسم واحد من عمالقة مصر الذين يمثلون أحد رموز قوتها الناعمة.. هذا ما تصادفه عندما تمر بأحياء القاهرة وضواحيها التي كانت تسكنها عائلات الطبقة الوسطى خلال القرن الماضي، ومطلع القرن الحالي.. هي لافتة صغيرة الحجم نعم، لكنها تحمل رسائل كثيرة ودلالات عبقرية تزيد الرموز الحالية رغبة في العطاء، وتقوي قناعاتهم بأن ما يبذلونه لا يمضي هباء ولا تذروه الرياح، إذ أكدت لهم هذه المبادرة الحضارية أنهم ينتمون لوطن لا ينسى نجومه- حتى بعد أن رحلوا منذ سنوات بعيدة- ولا يتجاهل شكر من منحوه من فكرهم أو أرواحهم أو وقتهم.

كان قد جمعني لقاء مهني منذ أيام بالكاتب الصحفي الكبير عبدالله السناوي، وبعد أن أنهينا جلستنا في مكان عام بحي الزمالك بالقرب من مقر سكنه اصطحبني الرجل في جولة على الأقدام- لم تكن ضمن مخطط اللقاء- وذلك حين مررنا فجأة على أحد المباني العتيقة في حي الزمالك الذي غنى له الشيخ إمام عيسى قائلا: "و حي الزمالك مسالك مسالك".. هذا الحي، الذي ظل لعقود طويلة مسكنا للطبقة المتوسطة وكثير من أبناء الطبقة الارستقراطية، كان من بين أحياء القاهرة التي حملت شوارعها لافتات المشروع الحضاري «عاش هنا».. و امتدت بي الجولة مع الأستاذ السناوي حتى بلغنا منزله، وفي الطريق الذي لم يتجاوز أكثر من مائتي متر صادفتنا لافتات لنحو سبع شخصيات كان لهم دور في خدمة الوطن كل في مجاله.

شدني جدا حماس رفيق جولتي لهذا المشروع، وسعادته بمشروع يحتفي بالوطن في شخوص أبنائه، وحين علقت على ندرة المعلومات الواردة عن الشخصيات، أجابني مدافعا: إن هذا أمر منطقي حيث اللوحة صغيرة الحجم، وطبيعة الموقف أن المار أمام اللوحة لن يجد متسعا من الوقت للوقوف طويلا في تأمل معلومات كثيرة عن الشخصية المحتفى بها، فهو ليس في مكتبة عامة ليقرأ بأريحية.. حينها لفت نظري وجود ما يسمى "باركود" موجود على اللوحات، يمكن استخدامه عن طريق الهاتف المحمول ليتيح لمن يرغب معرفة تفاصيل كثيرة عن شخصية المحتفى بهم عبر لوحات المشروع، وبالفعل جربت الولوج إلى الموقع المخصص للمشروع، فوجدت ما يفي من المعلومات عن شخصيات المكرمين.

 لكن الأستاذ عبدالله نبهني إلى أمر آخر وجدته أكثر وجاهة من ملحوظتي السابقة، ذلك أن اللوحات يكتب بها أسماء المكرمين دون أن تسبقها تلك الألقاب التبجيلية التي اعتادت ثقافتنا أن تطلقها على أمثال تلك الشخصيات المحتفى بها، فمثلا حملت لوحة تكريم نجيب محفوظ لقب "الروائي" دون الإشارة إلى أنه حامل نوبل في الآداب عام 1988، لوحة عبدالحليم حافظ حملت اسمه دون أي لقب أو تعريف يليق به واكتفت بالإشارة إلى تاريخي مولده ووفاته، وهو ما تم مع نجوم أمثال شادية، يحيى شاهين، يوسف إدريس.. و إذا كان يحسب للقائمين على المشروع خروجهم به إلى عدد من محافظات مصر بعيدا عن القاهرة الكبرى، كما فعل مثلا بوضع لوحة تحتفي بالنائب الراحل البدري فرغلي، إلا أنهم كتبوا اسم الرجل-أيضا- دون أي إشارة إلى كونه نائبا سابقا أو شيئا من هذا القبيل. 

أرجو أن أؤكد أنني لست بصدد تصيد أخطاء مشروع سعدت به وتابعته منذ انطلق قبل عدة سنوات، حتى إنني كلفت إحدى الزميلات بعمل برنامج إذاعي بذات الاسم يقدم أسبوعيا من مواقع مختلفة رموز القاهرة الكبرى من خلال حوارات مع مَن عاصروا هذه الرموز واحتكوا بها أو مع أحد أفراد أسرهم، لكن عتابي- وليس انتقادي- هو من باب الرغبة في السعي نحو الكمال ومحاولة إدراكه بتدارك تلك الهنات، فمع مرور السنوات ستبقى تلك اللوحات، وإن كان هناك من يعرف اليوم بعض المعلومات عن هذه الرموز المحتفى بها ويعرف لهم أقدارهم، فمن يدري ما الذي يحمله لنا المستقبل؟ مع وجود بوادر تشير إلى انصراف الأجيال الجديدة عن القراءة أو الاهتمام بالشأن العام لاسيما الثقافي، كما أنها لمسة احترام نؤكدها حين نوقر رموزنا ونقدرهم بمنحهم ما يستحقون من ألقاب، لنرسخ مبدأ احترام الشخصيات ذات العطاء، وهو المستهدف من المشروع في الأساس.

 ورغم هذه الملحوظة الصغيرة التي يمكن استدراكها فيما هو قيد التنفيذ من اللوحات، إلا أنه تجدر الإشارة إلى أن هذا المشروع قد أحدث حالة من الارتياح العام، وذكّر المصريين برموز كانوا قد نسوها، وخلق مساحة لسعادة عائلات كثيرة بكبارها الذين رحلوا، و ردّ الاعتبار لشخصيات رحلت دون أن يتم تكريمها أو تقدير عطاءاتها للوطن.. و قد قرأت في عينّي رفيق جولتي الكاتب الكبير سؤالا أظنه أصبح في خاطر كل صاحب عطاء لهذا الوطن، مفاده: هل سيذكرني الوطن كما ذكر هؤلاء الرموز من خلال هذا المشروع؟ الإجابة البديهية والتي صرت أؤمن بها هي أن وطنا بحجم مصر وشعبا يملك هذه العراقة لا يمكن أن ينسى كل من وضع لبنة واحدة في صرح حضارته وصنع له بعض أمجاده.