رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

روايات تاريخية «مضروبة»

 

الروايات التاريخية ليست كلها حقيقية، فكثير منها يتصف بالزيف، فليس كل ما يكتب ثمينًا وأصيلًا وتنويريًا. وللرواية التاريخية شكل داخلى وآخر خارجى. فأما شكلها الخارجى؛ فهو موضوعها الذى يختاره الروائى «الفترة الزمنية التى يتم سرد أحداثها»، ويضاف إليه الديكورات التاريخية والأزياء التى تمنح الرواية التاريخية مظهرها التاريخى البراق. وأما شكلها الداخلى؛ فيتعلق بتصرفات شخوص الرواية، وتكوينهم النفسى، وما يحملونه من أخلاق وقيم ورؤى تتناسب مع الفترة التاريخية التى يعيشون ويفعلون بها. 

والرواية التاريخية الحقيقية هى التى تستطيع أن تعكس واقع الفترة التاريخية فى شكليها الخارجى والداخلى. ومن أمثلة الروايات التى استطاعت أن تصور ذلك؛ على سبيل المثال لا الحصر؛ رواية «واحة الغروب» (٢٠٠٦م) للكاتب بهاء طاهر، إذ جاءت الرواية لتصور الفترة الزمنية الواقعة بعد الهزيمة العرابية واحتلال الإنجليز لمصر، فمن خلال شخصية ضابط البوليس المصرى «محمود» المنقول إلى واحة سيوة نستطيع أن نفهم العزلة النفسية التى أصابت المصريين واغترابهم داخل وطنهم. ولم تكن واحة سيوة مجرد ديكور لأحداث الرواية، ولم تكن أزياء البدو وعساكر البوليس المصرية مجرد أزياء تاريخية تمنح الرواية زينةً لشكلها الخارجى، بل كان أبناء الواحة يعانون من عزلة عن مجتمعهم المصرى، ويغتربون داخله كذلك، وتشابكت الحبكات السردية الخاصة مع العامة، وظهرت رؤى كل شخوص الرواية للعالم من حوله، وتصارعت الشخوص بما تحمل من قيم وأخلاق، لتقدم لنا رواية تاريخية حقيقية، لم يكن بطلها شخصية تاريخية كبيرة، لكن أحد «أبطال منتصف الطريق» كما يطلق عليهم «جورج لوكاتش» فى كتابه «الرواية التاريخية»، فالضابط «محمود» لم يكن ضابطًا كبيرًا بالجيش المصرى مع عرابى، ولا أحد المهمشين البسطاء، بل شخصية متوسطة تستطيع أن ترى الأحداث التاريخية من خلال أفعالها وقيمها وتصرفاتها فى محيطها. 

«واحة الغروب» لم تكن الرواية التاريخية الحقيقية الوحيدة فى الفترة الأخيرة، بل هناك روايات تاريخية أخرى حقيقية؛ مثل: «أولاد الناس» لـ«ريم بسيونى» (٢٠١٨م) التى تتعرض لفترة تاريخية مهمة وهى احتلال العثمانيين لمصر، فتتبع الرواية تلك الأحداث التاريخية من خلال تتبع بناء مسجد السلطان حسن وما حدث له من سلب لمشكاواته من الغزاة العثمانيين مدعى الاحتلال باسم الفتح الدينى، وكذلك روايتا: «ثورة قاو الكبرى» لـ«عمرو شعراوى» (٢٠١٩م)، و«الهجانة» لـ«أيمن رجب طاهر» (٢٠٢٠م).

وعلى النقيض نجد عشرات الروايات التاريخية الزائفة التى تغرق المكتبات. وزيف الرواية التاريخية ليس مقولة عامة مطلقة، بل عطبٌ يصيب الرواية التاريخية بالزيف من طرق ثلاثة. 

الأول: الشكل؛ حيث يكون للرواية التاريخية شكل تاريخى براق من حيث الموضوع «الفترة الزمنية المختارة للسرد»، والأزياء والديكورات تنسج وتشيد وتصف بدقة كأنها تصوير، بينما تصرفات الشخوص ووعيهم وأخلاقهم عصرية، تفارق الفترة الزمنية التى هى موضوع الرواية كما فى رواية «أوراق شمعون المصرى» لـ«أسامة الشاذلى» (٢٠٢١م)، أو تكون الشخوص ورقية وليست من لحم ودم، أو لا نجد شخوصًا بشرية حقيقية «يحملون الخير والشر داخلهم»، كما فى رواية «كل الشهور يوليو» لـ«إبراهيم عيسى» (٢٠٢٠م). 

وأما الثانى: فهو الموضوع «الفترة الزمنية وأحداثها»؛ حيث يقوم الروائى بتغيير بعض التفاصيل التاريخية، أو تفسير الأحداث المسرودة بطريقة تجعل الأحداث التاريخية تأخذ غير معناها، عبر إعادة ترتيب الأحداث التاريخية بما يوجهها ناحية قصد ما، ومن هذا الصنف من الروايات التاريخية الزائفة سنجد الكثير فى الوقت الراهن، مثل؛ «لوكاندة بير الوطاويط» لـ«أحمد مراد» (٢٠٢٠م)، «كل الشهور يوليو»، «أوراق شمعون المصرى». 

أما الطريق الثالث والأخير من أشكال الزيف؛ وهو أخطرها؛ فهو تزييف الوعى، حيث يجرى تشويه التطور التاريخى الذى اتخذته الأحداث- كما فعلت موجة من الروايات الرومانتيكية الفرنسية التى تعاملت مع الثورة الفرنسية كخطأ تاريخى يجب تصحيحه- فيعيد «أسامة الشاذلى» سرد أحداث خروج اليهود من مصر بشكل يجعلك تتعاطف معهم وتشاركهم محنتهم وجدانيًا فى «أوراق شمعون المصرى»، بل ويذهب إلى ما هو أبعد من ذلك حين يشاغلك بسيطرة خزاعة على مكة وربط ذلك بالتزامن مع تيه بنى إسرائيل فى سيناء «الفئة الوحيدة الموحدة بالله والمؤمنة به مع نبى الله موسى»، وكذلك يفعل «إبراهيم عيسى» مع ثورة يوليو ١٩٥٢م، جاعلًا من كل الثورات المصرية مجرد انقلابات نجحت بالصدفة، ومثلهما يفعل «أحمد مراد» مستخدمًا شعرية اليوميات والغرائبية والفانتازيا فى «لوكاندة بير الوطاويط».