رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

معضلة المقاتلين الأجانب الهاجس الممتد!

 

مع بداية الأزمة السورية فى العام ٢٠١١، كان هناك العديد من الخطط والمسارات التى عملت على سفر الكثير من المقاتلين الأجانب إلى سوريا، وكان لوجودهم أثر كبير فى تعقيد مسار النزاع هناك بل فى سرعة انتقاله إلى العراق فى يونيو ٢٠١٤. حيث اعتبر هذا التاريخ هو محطة ميلاد «الموجة الأكبر» للظاهرة، التى تشكلت بعد احتلال تنظيم «داعش» المساحات الشاسعة من أراضى سوريا والعراق، ودعوته المسلمين حينئذ للهجرة إلى ما سماه «دولة الخلافة» التى استمرت قائمة تقريبًا لنحو خمسة أعوام، جرى فيها الكثير الذى غيّر من طبيعة التهديد والتشكل الإرهابى قبل أن يشهد العام ٢٠١٩ سقوطها، وانهيارها فى كل من سوريا والعراق بسيناريوهات مختلفة لكنهما خلفا نوعًا من المعضلات «المنضبة»، أشهرها مصير العناصر التى تحمل جنسيات غير سورية أو عراقية مما اصطلح تسميتهم «المقاتلين الأجانب».

من أهم الدراسات التى صدرت خلال العام الماضى عن هذا الأمر، قام بها المعهد الدولى للدراسات الاستراتيجية «IISS» بالتعاون مع كينجزكولدج فى لندن، حذر فيها من أن تخلى حكومات الغرب عن السعى لإعادة مواطنيها المنضمين إلى داعش، يدفع هؤلاء إلى التفكير جديًا فى إعادة إحياء داعش من جديد. الدراسة هنا استندت إلى تقرير الأمم المتحدة الشهير الذى يمثل حتى الآن المرجعية الموثقة فى هذا الشأن، الذى حدد عدد الأجانب الذين قاتلوا فى صفوف تنظيم داعش بنحو «٤٠ ألف» مقاتل أجنبى، قدموا إلى منطقة الصراع فى سوريا والعراق من «١١٠ دول». ينقسمون بواقع «٣٢ ألف رجل» و«٤ آلاف امرأة» ومثلهم تقريبًا من الأطفال، وهى أرقام تقريبية جرى التأكد من صحتها واقترابها من الحقيقة لاحقًا، أثناء عمليات الحصر التى جرت داخل معسكرات الاحتجاز مثل «الهول، وروج»، حيث ما زال هناك الآلاف ينتظرون مصيرهم الغامض الذى تسبب فى أحد فصوله فى أزمة ما بين الولايات المتحدة، وعديد من البلدان الأوروبية التى يحمل العديد من هؤلاء جنسيات دولها.

فى العام الأخير من عمر إدارة الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب، طلب من الاتحاد الأوروبى استيعاب ما يقرب من ألف مقاتل أجنبى من العراق وسوريا، حيث أرادت الولايات المتحدة بهذه الخطوة التأكيد على ضرورة السيطرة الصحيحة على مقاتلى تنظيم «داعش» السابقين، وفق رؤية تمثلت فى أنه حال لم تتخذ الإجراءات الجادة لتحقيق ذلك، فإن العالم سيشهد هجرة جماعية وانتقال لهؤلاء المقاتلين إلى مناطق أخرى قد تكون أوروبا ذاتها من بينها، ما ينتج عنه تصاعد وتنامى جولة جديدة من الإرهاب هناك. فى الوقت الذى كانت الدول الأوروبية تجرى تقييمًا لكيفية التوصل إلى آلية، يمكن أن تفضى إلى نقل المقاتلين الأجانب من سوريا إلى العراق لمحاكمتهم هناك بتهم جرائم حرب، فقد حوكم خلال الأعوام التى شهدت سقوط «داعش» وبدء إلقاء القبض على عناصره فى العراق، آلاف المشتبه بانتمائهم إلى التنظيم هناك بعد أن اعتقلت القوات العراقية كثيرًا من الأشخاص، خلال استعادتها السيطرة على البلدات التى عدت لسنوات معاقل للتنظيم فى مختلف أنحاء البلاد. ولهذا ظلت عمليات الاستعادة من قبل الدول الأوروبية حتى الآن، تحمل أرقامًا محدودة للغاية لا تتناسب وحجم المشكلة ولا تكافئ خطورتها الماثلة، فقد ذكرت الخارجية الفرنسية على سبيل المثال فى يونيو من العام الماضى أنه جرى إعادة «١٠ أطفال» فرنسيين، من مخيمات اللاجئين فى شمال شرق سوريا إلى فرنسا، وأنها بصدد إعادة مجموعة فى العام ٢٠٢١ تضم نحو «١٥٠ طفلًا» من أبناء المقاتلين الأجانب ممن يحملون الجنسية الفرنسية، تم الإبلاغ عبر مراقبى الأمم المتحدة عن وجودهم فى سوريا بالمناطق الخاضعة لسيطرة الأكراد، وقد شارف هذا العام على الانتهاء ورغم محدودية العدد من الأصل لم تستكمله فرنسا وبقى الأمر معلقًا، فى ظل بحث الأكراد عن حل لمسألة المقاتلين الأجانب الشائكة مع رفض الغربيين استعادتهم!

البلدان الأخرى ليست بأفضل حال من فرنسا، بل ربما تبدو أقل جدية فى التحرك بالنظر إلى الأعداد الرمزية التى ينظر إلى استعادتهم، فقط لمجرد إثبات البعض الانخراط فى العملية ليس أكثر. فبلجيكا أعادت «٣ نساء» أرامل لمقاتلين سابقين فى تنظيم داعش فى سوريا، وصحبتهم «٦ من أطفالهن» كانوا موجودين فى تركيا حيث فروا إليها، وفق ما أعلنته النيابة الفيدرالية فى البلاد، حيث واجهت النساء إدانة صادرة عن القضاء البلجيكى بالمشاركة فى نشاطات جماعة إرهابية. ومثل ذلك قامت ألمانيا وفنلندا باستعادة «٥ نساء» و«١٨ طفلًا» كانوا يقيمون فى «مخيم الهول»، أملتها فقط دوافع إنسانية، فوفق البيان الألمانى فإن هلسنكى أعادت «٦ أطفال وامرأتين»، بينما أعادت برلين «١٢ طفلًا و٣ نساء» يخضعون جميعهم للتحقيق بشبهة انتمائهم لتنظيم داعش. فبعد سنوات اكتظ فيها مخيم الهول بساكنيه للحد الذى دفع الإدارة الذاتية فى شمال شرق سوريا إلى نقل المئات من عائلات مقاتلى تنظيم داعش الأجانب، والذين صنفوا باعتبارهم «الأقل تشددًا»، من الهول إلى «مخيم روج» بعد توسعته وإضافة بعض التحسينات المحدودة وفق الإمكانات، فى خطوة تحفيزية للدول الغربية كى تبدأ فى عمليات الاستعادة ولو على دفعات من أجل تخفيف الأحمال عنها.

فى الأخير يبقى على الجانب المقابل من المراوحة الأوروبية، هناك قدرة التنظيم على تغيير تكتيكاته حاضرة، وما زالت تستثمر الزمن وتنجح فى اختراق الخزان البشرى الذى يبدو بلا صاحب. فداعش خلال العام الماضى والجارى الذى شارف على الانتهاء، عاد مرة أخرى إلى شن العمليات المباغتة بغرض أولى أن يحافظ مقاتلوه على الحد الأدنى من الخبرة العسكرية، وبهدف استكشاف مناطق نائية معزولة تمكنه من زرع عناصره فيها، دون الاهتمام بالسيطرة المباشرة على الأرض كما كانت الحال سابقًا. ولا يزال «داعش» ناجحًا فى زرع عقيدة «القتال حتى الموت» داخل صفوف مقاتليه، من أجل ضمانة فاعليتهم بعد نقلهم إلى أماكن أخرى كما يجرى الآن نحو وسط وشرق آسيا، وإلى وسط وغرب إفريقيا. حيث تشهد كلتا المنطقتين نشاطًا يفوق المركز فاعلية وتأثيرًا، كما الحال فى «ولاية خراسان» و«ولاية غرب إفريقيا»، فالغريب أن التنظيم يقرأ غياب التنسيق الاستخباراتى بين دول العالم على نحو جيد، ويتابع إخفاق «الإنتربول» ومحدودية المعلومات التى يتحرك على ضوئها. كى يقوم بإعداد خطط مضادة لنقل مقاتليه من قارة إلى أخرى، وعبر بلدان عديدة مكنته من تجميع أعداد وصلت خلال شهور إلى القدرة على ترتيب مسارح عمل جديدة، لن تقل فى خطورتها وتهديدها عن سابقتها، وهو ما بدأ يتكشف فى أفغانستان، وفى دول الساحل الإفريقى التى تعج بفروع للتنظيم استقبلت فى عام واحد المئات ممن تقاعس الآخرون عن استردادهم!