رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مَنْ ينتصر.. فى حرب إثيوبيا الأهلية؟

 

سيطرت جبهة تحرير شعب تيجراى على مدينة لاليبيلا الاستراتيجية، بعد نحو أسبوعين من استعادة الجيش الإثيوبى لها، فى أبرز مستجدات النزاع المستمر منذ نحو عام بين الجبهة والحكومة الإثيوبية.. وسط زحف قوات التيجراى مع جيش أورومو نحو عاصمة إثيوبيا، أديس أبابا، متوعدة بإسقاط رئيس الوزراء أبى أحمد، ما يعنى أننا أمام حرب طويلة الأمد، لا يمكن تأكيد فيها، حتى الآن، مَنْ انتصر على مَنْ.. خصوصًا أنه، وقبل شهر واحد فقط، بدا أن قوات تيجراى شنت هجومًا استولت خلاله على ديسى وكومبوتشا، وهما بلدتان على الطريق الرئيسى السريع المتجه نحو العاصمة أديس أبابا، بل إن الأنباء أفادت بأنها وصلت إلى شيوا روبيت، على بُعد نحو ٢٢٠ كيلومترًا شمال العاصمة.. لكن سرعان ما استعاد الجيش الإثيوبى السيطرة على هذه الأراضى.

ومع ذلك، لا تزال كيفية تسجيل الحكومة انتصاراتها وما تعنيه بالنتيجة النهائية فى الحرب المستمرة منذ عام نقاط جدل حاد، مع دخول القتال مرحلة جديدة نتائجها غير مؤكدة، فى ظل إعلان تيجراى عن أن الانسحاب من هذه البلدات تعديلات استراتيجية ضرورية، وإعلان الحكومة عن انتصارات «من الجدار إلى الجدار»، وأن «العدو مدمر وتفكك».. بينما يقول الرئيس العسكرى للجبهة، تاديسى وريدى: «فى المعركة، من المعروف أنه ستكون هناك تعديلات وتراجع محدود، وكذا تحركات مهمة للأمام.. قررنا أن نخفض المشاكل، ونقاط الضعف فى بعض المناطق التى وصلنا إليها، وأن نترك بعض تلك الأماكن طوعًا».

مركز «سترافور» الأمريكى للدراسات الأمنية والاستخباراتية، الذى يوصف بـ«المقرب من المخابرات الأمريكية»، أكد أنه من غير المرجح أن تؤدى استعادة الحكومة الإثيوبية السيطرة على المدن الرئيسية إلى وضع نهاية قريبة للحرب الأهلية المستمرة منذ نحو عام، حيث لا يزال طرفا الصراع غير مستعدين للتفاوض.. فقد أعلنت الحكومة الإثيوبية فى السادس من ديسمبر الجارى عن أنها استعادت «ديسى» و«كومبولتشا»، بعد شهر من استيلاء جبهة تيجراى على المدينتين الاستراتيجيتين الواقعتين على طول الطريق السريع، الذى يربط منطقة تيجراى الشمالية بأديس أبابا.. واعتبر أبى أحمد أن المكاسب الأخيرة دليل على أن القوات الإثيوبية الحكومية انتصرت فى الحرب على قوات تيجراى، التى بدأت فى نوفمبر من العام الماضى.. بينما أكد المتحدث باسم جبهة تحرير تيجراى، جيتاتشو رضا، أن جنود الجبهة غادروا ديسى وكومبولتشا، فى انسحاب كان جزءًا من خطة للجبهة.. وهنا يقول «سترافور»، إنه يجب التعامل مع البيانات الصادرة عن كلا الجانبين بنوع من التشكيك، حيث إن التعتيم الإعلامى المستمر فى إثيوبيا، جعل من الصعب للغاية على الصحفيين الإبلاغ عما يحدث على أرض الواقع.

قبل وقت قليل، كان التيجران قريبين، إلى حد بعيد، من العاصمة أديس أبابا.. فما الذى أدى إلى التراجع؟.

أولًا: لم تقل جبهة تحرير تيجراى صراحة إنها تريد دخول أديس أبابا، وإن كانت لم تستبعد مثل هذه الخطوة.. ثانيًا: لم يكن هناك طابور ضخم من الدبابات والعربات المدرعة التى تسير على الطريق باتجاه أديس أبابا.. «الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك»، هكذا أكد مسئول أمنى غربى لوكالة «فرانس برس»، منتصف نوفمبر الماضى، وقال إن هناك جنودًا مشاة يذهبون إلى الجبال، يطلقون النار ويحيطون ببعض المناطق، «ولكن يبدو أنهم لا يسيطرون تمامًا على المدن والبلدات.. ولا أعرف ما إذا كان علينا أن نسميه تقدمًا».. ثالثًا: انسحاب جبهة تيجراى من ديسى وكومبولتشا، بعد فترة وجيزة من الاستيلاء عليهما، يشير إلى أنها ربما تكون قد شعرت بأن خطوط الإمداد الخاصة أصبحت مهددة، بعد التوغل أكثر فى أمهرة.. وأمام الحماس المتجدد للقوات الإثيوبية، وسط مخاوفهم من أن شن التيجراى هجومًا على أديس أبابا، لم يكن من خيار سوى التخلى عن المدن الاستراتيجية.

ومع استمرار الصراع، فإن الموقع الرئيسى التالى الذى تجب مراقبته هو بلدة «ولدايا» التى تحتلها تيجراى، خصوصًا أن خسارتها لديسى وكومبولتشا حدت بشدة من قدرتها على غزو أديس أبابا، حيث تقع المدينتان على طول الطريق السريع الذى يربط العاصمة الإقليمية لتيجراى بالعاصمة الفيدرالية الإثيوبية.. لكن جبهة تيجراى لا تزال تسيطر على مدينة ولدايا، وهى بلدة أخرى ذات أهمية استراتيجية على طول الطريق السريع المؤدى إلى العاصمة أديس أبابا.. وإذا خسرت التيجراى «ولدايا» أيضًا، التى تقع على بُعد نحو ١١٩ كيلومترًا شمال ديسى، سيضعف ذلك بشكل كبير موقع قوات التيجراى فى ساحة المعركة.. وإذا كانت القوات الإثيوبية قادرة أيضًا على استعادة هذه البلدة، فيمكن أن تفكر جبهة التيجراى، وقتها، فى إجراء مفاوضات مع حكومة أبى أحمد.

وعليه.. فإنه فى ظل الوضع الحالى، تظل المواجهة المطولة هى النتيجة الأكثر ترجيحًا للصراع، مع بقاء الجزء الأكبر من القتال فى الشمال.. وما لم تتمكن قوات تيجراى من إعادة تجميع صفوفها، واستعادة ديسى وكومبولتشا، فمن المرجح أن يظل القتال بينها وبين القوات الحكومية مقتصرًا على منطقتى أمهرة وتيجراى الشمالية.. وفى حين أن هذا يزيد من نفوذ الحكومة الإثيوبية فى محادثات السلام المحتملة، فمن غير المرجح أن يؤدى استمرار القتال فى الشمال إلى خسائر من شأنها أن تجلب جبهة تيجراى إلى طاولة المفاوضات فى المستقبل القريب.. فمقاومتهم من قِبل السكان أقل فى شمال البلاد، كما أن مشاكل سلسلة الإمداد ستكون أقل خطورة بالقرب من منطقة تيجراى.. وهذا يعنى أن مقاومة قوات الحكومية الإثيوبية ستكون أكثر صرامة، كلما اتجهت المعركة شمالًا.

لقد أخطأ أبى أحمد منذ البداية.. فقد خاض النزاع، بادئ الأمر، بهجوم قواته على إقليم تيجراى، على أنه «عملية لحفظ الأمن» سريعة وضرورية لاستئصال من زعم أنهم أعضاء فاسدون ومتمردون من النخبة، فى «الجبهة الشعبية لتحرير تيجراى».. وسرعان ما سيطرت قوات الحكومة الإثيوبية مدعومة بقوات من إريتريا المجاورة، على بلدات رئيسية فى الإقليم، وعلى عاصمته مدينة ميكيلى.. غير أن أبى أساء تقدير مدى صعوبة الاحتفاظ بهذه المنطقة.. وسرعان ما تحول الصراع مع التيجراى إلى شوكة فى خاصرة أبى، إذ كانت هناك انتكاسات عسكرية تسير جنبًا إلى جنب مع ورود أدلة على ارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان على نطاق واسع، مما أدى إلى تشويه صورة الإصلاحى التى عمل على رسم معالمها لنفسه بعناية.

وبعد..

فإنه، وفى ظل تدهور الوضع الإنسانى فى البلاد، ووقوع الاقتصاد الإثيوبى رهينة لسياسات أبى أحمد، الذى يدفع بلاده دفعًا نحو الدمار والخراب، بعد أن باتت إثيوبيا غارقة فى الديون، واعتراف أديس أبابا بأن البلاد فقدت ٢.٣ مليار دولار منذ اندلاع الصراع فى تيجراى فى نوفمبر ٢٠٢٠.. ولم تأخذ هذه التكلفة فى الاعتبار، الإنفاق العسكرى أو فقدان سبل العيش والوفيات والإصابات بين المدنيين، فضلًا عن فقدان ساعات من الإنتاجية الاقتصادية بسبب فرار المدنيين من الخطر، وإغلاق المدارس وتجنيد طلابها ضمن القوات الحكومية- يبقى الحوار الشامل فقط هو الحل للنزاع. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.