رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لو لم أكن.. «لوددت أن أكون»

 

لا يجهل أحد أن العبارة التاريخية «لو لم أكن مصريًا، لوددت أن أكون مصريًا» هى مقولة للزعيم مصطفى كامل، ولكن لم يحفظ التاريخ للزعيم حقوق الملكية الوطنية، فرأينا العبارة تُستخدم فى أى سياق يفاضل بين خيارين أحدهما الواقع والآخر هو التمنى، وحديثنا هنا حول فكرة إحلال الأمنية محل الواقع فى محاولة للعدول عن اختيار سبق إقراره.

ليس خفيًا أن هذا التشكيل اللغوى قد احتل موقعًا متفردًا فى فكر التمنى وثقافة المبادلة، حتى إن العبارة طرحت استفهامًا يجب التوقف عنده لفهم ما إذا كانت أمنية المبادلة هنا نتاج النضج واكتمال الخبرة، أم أنها عودة لمربع الاختيار بعد تذوق الفشل؟

من الثابت فى مشاهد الحياة أن تجربة أى اختيار فاشل تقود صاحب التجربة إلى إعادة التفتيش فى البدائل المتاحة، وهو ما يعرف بالعودة إلى المربع الأول فى الاختيار أى المربع صفر.

يعرف الاختيار بأنه نشاط ذهنى يهدف إلى دراسة أفضل البدائل أو على الأقل المفاضلة بين القرارات المتاحة وقبول الأفضل من بينها، لذلك فهو أداء عاقل يستخدم الرصيد المعرفى لمتخذ القرار.

الفرق بين صناعة القرار واتخاذ القرار:

وفق التعريف الأكاديمى فى علم الإدارة، يعرف مصطلح صناعة القرار بأنه كل الإجراءات الأولية اللازمة لتحديد الإشكالية موضوع الدراسة وفهم المطلوب واستخدام الموارد المعرفية المتاحة لطرح مجموعة من الحلول وتقديمها لطرف آخر هو متخذ القرار للبت فى الأمر.

أما اتخاذ القرار فهو اعتماد أفضل الحلول ضمن الاقتراحات التى قدمتها صناعة القرار، وبالطبع يفترض أن يكون متخذ القرار على دراية تامة بأبعاد المشكلة، وفقيهًا فى فهم أبعادها، ويجب أن يملك صلاحية اتخاذ القرار وتحمل تبعاته ولا يفوتنا فى هذا السياق الإشارة إلى ضرورة تمتع صانع القرار ومتخذه بخبرة كافية فى المفاضلة بين الأهميات والأولويات، وهو ما يعرف اختصارًا بـ«فقه الأولويات». 

تقدير الأهميات يعنى رصدًا قياسيًا نسبيًا لكل أمر يتم التعامل معه، ولكن أبدًا لا يلتزم فقه الأولويات بوضع الأمر المهم فى المقدمة؛ لأن الأولوية لا تحكمها أهمية الأمر فى المطلق، بل تدبر توقيت إتيانه وتوفير ضمانات حمايته، ولنأخذ مثالًا يوضح كيفية البت فى أمر مهم وتحديد أولوياته، فلو أن هناك إنذار حريق فى أحد المستشفيات واستلزم الأمر إخلاء المرفق من المرضى والعاملين وهو أمر مهم وحيوى، ولكن هناك تهديدًا متصاعدًا من انفجار أسطوانات الأكسجين والغازات الملتهبة وهو أمر خطير أيضًا، فهنا ينصح فقه الأولويات بدرء خطر الانفجار الكارثى أولًا، ومن بعدها يأتى فى المقام الثانى إخلاء المرضى وترحيلهم إلى المنطقة الآمنة قبل انفجار إحدى أسطوانات الغاز وبعدها يتسلسل المزيد من الانفجارات، وتصبح خسارة الأرواح هى الأمر الحتمى، وهنا قد يعترض أحدهم متسائلًا: أليس من الأحرى إنقاذ الأنفس أولًا؟ ويرد المنطق الحسابى على هذه الفرضية بأن العجالة هنا لا تمس التداوى أو سرعة علاج المريض، وإنما هى تحريك المريض من المنطقة التى تنطوى على الخطورة، وهناك مبدأ شرعى يلخص هذه المفاضلة وهو أن «درء المفاسد مقدم على جلب المنافع».

الممكن والمحتمل والمفاضلة بينهما:

يشير لفظ الممكن أو الجائز إلى تأكيد حدوث أمر ما، بصرف النظر عن فرص احتماله، فلو تساءل أحدهم عن إمكانية اصطدام طائرة بقطار، من حيث المبدأ، لكانت الإجابة بأن الأمر ممكن فى المطلق، ولكن فرصة حدوثه ضئيلة تقترب من الصفر، ولكنها ليست صفرًا، ويهدف هذا المبدأ الحسابى إلى استبعاد التوقع البشرى الذى يميل بطبيعته إلى تجاهل إمكانية حدوث هذه الأخطاء، فيصبح التأهب لدرء الخطر ممكنًا طالما تم إقرار إمكانية حدوثه.

كيف يتم حساب نقاط الترجيح لدى التفكير فى البدائل؟

تقدير نقاط الترجيح هو عملية حسابية يتم من خلالها افتراض قيمة لكل حل بديل وفق أهميته المادية أو المعنوية، وبعد «تسعير» أو تقدير هذه القيم تتم المفاضلة الحسابية بين الفروض المتباينة، ولفهم هذه الفرضية، دعونا نسترشد بأحد مديرى الشركات وهو بصدد المفاضلة بين أمرين كليهما صحيح ومفيد فى ظاهره، ولكن فرق التكلفة قد يدعم أحدهما ويرفضه الحل الآخر. يرغب المدير فى شراء حافلات لتوصيل العاملين للشركة والعودة بهم للمجمع السكنى بعد انتهاء الدوام، وهناك خيار آخر وهو استئجار حافلات لتأدية المطلوب.

لدى البت فى الأمر، وهو ما يعرف بصناعة القرار، يحصر صانع القرار النقاط الإيجابية والسلبية ويرصد ١- ١٠ درجات لكل نقطة إيجابية تصب فى صالح الشركة، ومقابله يرصد ١- ١٠ درجات سالبة لكل نقطة تمثل عبئًا ماليًا على عاتق الشركة، فتجد أن نظام التأجير يؤيده توفير ميزانية الشراء، وهى رقم ضخم قد يربك ميزانية الشركة، ومقابله بالطبع الإيجار الشهرى للحافلات، وهى كلفة أقل لكنها مستمرة، وبذات الوقت لا يلزم قطاع النقل تدبير ورش صيانة للحافلات فى حالة الشراء؛ لأن الصيانة تقع على عاتق الشركة المؤجرة للباصات دون أدنى تكلفة على المستأجر، ناهيكم عن عنصر التقادم فى الباصات الذى يمثل إهلاكًا لرأس المال المملوك فى حالة الشراء، بينما هو أمر صفرى التكلفة فى حالة استئجار الحافلات، وتتم تغطية كل النقاط المتحملة واحتساب جوانب التكلفة وجوانب الوفر وحصر كل المزايا والعيوب للوصول إلى نقطة الترجيح الحاسمة التى تضع متخذ القرار أمام الاختيار الصائب.