رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى محبة الأستاذ.. لا تحلموا بتجاوز نجيب محفوظ

لأنه نجيب محفوظ، لا تمر ذكرى ميلاده أو رحيله دون أن يعلن عن حضوره الطاغى والكاشف لكل ما تمر به حرفة الأدب والكتابة الإبداعية فى عالمنا العربى من مشاق وأزمات تصل إلى حد المأساة المؤلمة، والمثيرة للضحك والسخرية فى آنٍ واحد.

تتناثر الكتابات عنه هنا وهناك، مدحًا وذمًا فى كل الاتجاهات، وفى نفس الوقت، والحقيقة أن الكتابة عن «الأستاذ» فى حد ذاتها شىء جيد، ومثير للفرح، إلا أن كتابات بعض منتقديه هى ما تثير الأسى، والشعور بمدى ما وصلت إليه الحياة الثقافية العربية من بؤس وانحدار، خصوصًا أنها تأتى من بعض محترفى الكتابة والأدب، ومعظمها يأتى من كتّاب شبان، لم تتشكل ملامح كتاباتهم بعد، «إذا كانت لها ملامح أصلًا».

واللافت فى الموضوع أن جزءًا كبيرًا من مأساة الكتّاب الجدد أن أحدهم لم يستطع أن يتجاوز ذلك الحضور الطاغى للأستاذ، كلهم يدورون فى فلك الحلم بتجاوزه كمًّا أو قيمة، وكلهم يقعون أسرى ذلك الوهم الكاذب الذى تكون نتيجته حالة من البؤس والفقر الإبداعى، والسقوط فى فخ التكرار، وندب الحظ العاثر، وتجاهل النقاد، وتراجع النشر وغيرها من مشاكل ظاهرية، ليست هى الأصل فى بؤس الحياة الأدبية العربية. بينما الدوران فى فكرة تجاوز من سبق هو أصل المشكلة، فلا أحد يفكر فى مشروعه الكتابى، ولا فى حلمه الشخصى فى الإبداع، لا أحد، بمن فى ذلك الكتّاب الكبار.. الكل يضع أمام عينيه حلم «تجاوز نجيب محفوظ»، ولا شىء آخر.. «يا عم اكتب حلمك، ونفذ مشروعك بطريقتك وبأسلوبك، مالك أنت ومال نجيب محفوظ؟».

من هذه الكتابات التى أود التوقف عندها، ما كتبه أحد الأصدقاء منذ أيام قليلة، فقد كتب يقول إن «الأصل» فى الرواية هو «الإنسان»، وأخذ يعدد أسماء بعض الأدباء المشهورين الذين كتبوا عن حياتهم، أو تضمنت رواياتهم فصولًا من سيرتهم الذاتية، حتى جاء نجيب محفوظ فجعل الموضوع أو الفكرة أو القضية هى محور العمل الروائى، وقال مستنكرًا ما معناه أنه «منذ ذلك الوقت والرواية العربية ما زالت أسيرة ما جاء به نجيب محفوظ». 

ولأن هذا الصديق من الكتّاب الذين تترجم أعمالهم، وتفوز بالجوائز، وهو بالمناسبة كاتب شديد التميز بين أبناء جيله، إلا أن ذلك يعنى زيادة احتمالية تبنى هذا الرأى من عدد لا بأس به من الشباب الذين يقرأون له ويقدرون آراءه وكتاباته، بينما الحقيقة غير ذلك تمامًا، فهو رأى لا يعكس غير وقوع صاحبه فى ذلك الوهم الذى تحدثت عنه، وهم تجاوز الأستاذ، أو وقوعه أسيرًا لسيطرة الأستاذ على عقله، فربما كان ما يميز كتابة ذلك الصديق أن كافة رواياته تتضمن أجزاءً من سيرته الشخصية، وهو بذلك يريد أن يؤكد خروجه من عباءة محفوظ، أو تمرده «كتابةً» على ما جاء به، وله أن يحلم، أو يتوهم، لا فرق. بينما الحقيقة أن أكثر من كتب عن الإنسان والحياة فى مصر هو نجيب محفوظ، حتى إن عددًا من شخصياته ما زالت محفورة فى الأذهان بعذاباتها، وأفراحها وآلامها، وسماتها الشخصية، بل ومواقفها وعباراتها الأثيرة، كالسيد أحمد عبدالجواد، وابنه ياسين فى «الثلاثية»، وأنيس زكى فى رائعته «ثرثرة فوق النيل»، أو غيرها من أعمال وروايات شديدة الحياة والإنسانية، مثل «بداية ونهاية»، و«زقاق المدق»، و«اللص والكلاب»، وغيرها الكثير الكثير.

على أن الأهم من ذلك، هى عبارة «الأصل فى الرواية» التى بدأ بها ذلك الصديق كلامه، وهى عبارة لا تليق حقيقة بكاتب وروائى يدرك ما هى الكتابة، ويحلم بتجاوز من سبقوه، فلا أصل فى الكتابة الإبداعية إلا فى أذهان «المقلدين»، أو من يريدون السير فى المضمون والمعروف، ومن لا يقدرون على غير السير فى الطرق السالكة التى تعب فى شقها وتمهيدها مَن يحلم بتجاوز منجزهم العظيم.. الأصل فى الإبداع يا صديقى هو الإبداع، لا شىء غيره.. أن تكون لك بصمتك الخاصة، والمميزة، المثيرة للدهشة، والملهمة، المحفزة على المعرفة، أن يكون لك صوتك المعلوم النبرات.

قبلها بأيام كنت أتحدث مع أحد شباب النقاد، وأخذ يعدد ميزات أدب نجيب محفوظ بعبارات إنشائية مطاطة، لا علاقة لها لا بالأدب ولا بالنقد، فكان أن طلبت منه أن يعيد قراءته لعدد محدد من روايات الأستاذ، ونبهته إلى نقطة جوهرية لم يلتفت لها كثير من أساتذته النقاد، أو محترفى الكتابة النقدية، قلت له إن السر الأكبر فى حياة نجيب محفوظ وخلود كتاباته، هو ذلك المشروع الذى انطلق منه، وسار خلفه طوال مشواره مع الحياة والكتابة، وأنه فى كل أعماله كانت تطارده مجموعة من الأسئلة الوجودية الطاغية، عن الله والإنسان، وحقيقة الحياة، فراح يفتش عن رحلة الإنسان على الأرض، وكانت لنا «أولاد حارتنا» و«الطريق»، و«السمان والخريف»، و«قلب الليل»، و«ملحمة الحرافيش»، و«حديث الصباح والمساء»، وصولًا إلى تحفتيه «أصداء السيرة الذاتية» و«أحلام فترة النقاهة».

لم يحلم نجيب محفوظ بتجاوز أحد، بل طارد حلمه، وحدد أهدافه، وعاش يحفر طريقه الخاص، ويمهده أمام من يريدون السير معه أو بجواره أو خلفه، فكان هو الأستاذ، «العائش فى الحقيقة».. فلا تحلموا بتجاوزه إن لم تكن لديكم أحلام غيرها، وإن لم تكن لديكم أهداف أخرى أو طريق آخر.. لأنكم «من الآخر كده.. مش قده».

طبت مستقرًا يا عمنا الكبير.