رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

انظر إلى نفسك من النافذة.. واكتشف ذاتك

عندما يلاحظ الشخص أنه يجد صعوبة فى التواصل مع الآخرين أو يعانى من خلل أو اضطراب ما فى علاقاته الاجتماعية، أو حتى عندما يريد الشخص أن يطور مهارات التواصل لديه، فإن «نافذة جو- هارى» هى أسهل وأبسط الطرق، حيث تبدأ بالتفكير فى كيفية توسيع المنطقة الحرة «ما نعلمه ويعلمه الآخرون عنا» على حساب المنطقة العمياء «ما يعمله الآخرون ولا نعلمه نحن عن أنفسنا»، أو المنطقة المخفية «ما نعلمه نحن فقط عن أنفسنا ولا يعلمه الآخرون»، مما يوفر إدراكًا أفضل للذات وإلى إنشاء نوع من الحميمية والصداقة بين الأشخاص.

و«نافذة جو- هارى» هى مصفوفة تستخدم لمساعدة الناس على فهم تصرفاتهم، علاقتهم بأنفسهم وعلاقتهم بالآخرين بصورة أفضل.. ابتكر هذا النموذج اثنان من العلماء هما «جوزيف لوفت» و«هارينجتون انغهام» عام ١٩٥٥، لذا سميت باسم مشتق من اسمى مبتكريها «جو- هارى».

فعلى سبيل المثال، موظف دائم التصادم مع  الآخرين، وكل من حوله يعانون من عجرفته أو لهجة التعالى فى كلامه، ودائمًا يصفونه بالغرور وأنه لا يطاق.. الشخص نفسه يعانى من تجارب سابقة صعبة أو مشاكل شخصية أو لديه ضعف أو عدم ثقة فى النفس أو غضب داخلى أنه يعمل بوظيفة أقل من طموحاته أو مؤهلاته، ومضطر للقبول بها أو أى سبب آخر لا يعلمه سواه فقط.

بمجرد أن يثق هذا الموظف فى أحد زملائه ممن حوله ويطمئن له ويبدأ أن يشاركه هذا الجزء الخفى بداخله، يتحول الزميل من التيار المعارض الذى يرى أن هذا الموظف لا يطاق إلى التيار الداعم له مما ينعكس على الموظف وعلى أدائه. 

ومن الناحية العكسية، عندما يخبر الزميل هذا الموظف بأن الجميع يرونه مغرورًا ومتعاليًا، ويلفت انتباهه لتصرفات غير لائقة يبدأ الموظف بمراجعة نفسه وتعديل سلوكه وهكذا.

أعتقد أنه انطلاقًا من تلك النظرية، نشأت فكرة تسويق الذات أو كيفية خلق صورة ذهنية عامة عن الشخص.. حيث يقوم الشخص بإبراز الصفات التى يريد أن يعلمها عنه الآخرون، وبالأخص مع تزايد استخدام وسائل التواصل الاجتماعى، حيث أصبح ما نهتم به وما نكتبه وما نشارك به من صور وتعليقات.. إلخ هو فى حقيقة الأمر توسيع للمنطقة الحرة وتقليل للمنطقة المخفية.

المشكلة الأساسية فى التوسع الزائد فى مشاركة المنطقة الحرة مع الآخرين هى تآكل خصوصياتنا، والأسوأ يحدث عندما يرى الآخرون تلك الصفات التى نريد مشاركتهم فيها بشكل مختلف بل مغاير تمامًا، وبالأخص فى المجتمعات المتحفظة.. مثلما حدث مع فتاة «أون ذا رن».. هى أرادت محاربة سلوك خاطئ «التحرش» فتم اتهامها بأنها تبحث عن الشهرة.

 الجزء الأصعب فى «نافذة جو- هارى» هو كيفية إدراك الصفات الموجودة فى المنطقة المجهولة التى لا يعلمها لا الشخص ولا الآخرون، وتلك الحالة تحتاج لتدخل معالج نفسى يستطيع الخروج بها من حيز المجهول لحيز المعلوم ليمكن التعامل معها..

 «نافذة جو- هارى» لا تستخدم  فقط مع الأشخاص ولكن مع المؤسسات كذلك.. فالندوات التعريفية للموظفين الجدد، وإعطاء الفرصة للموظف بأن يقضى بعضًا من وقته فى أقسام أخرى لملاحظة ما يقوم به زملاؤه، وحتى تفويض المدير للموظف بالقيام ببعض الأعمال كلها مظاهر لكيفية توسيع المنطقة الحرة مع الآخرين وخلق شفافية تدعم سير العمل، وكذلك إعطاء الفرصة للموظف ليكتشف فى نفسه مهارات جديدة لم يكن يعرفها عن نفسه قبل ذلك.. من ناحية أخرى، فإن تسويق المؤسسات والمؤتمرات والأحداث التى تقيمها والدعاية والإعلانات كلها مظهر آخر لتوسيع المنطقة الحرة مع العملاء فتزداد ثقتهم فى المؤسسة.

فى مجال الموارد البشرية، يمكن اعتبار «التقييم الشامل أو ما يسمى بتقييم الـ٣٦٠ درجة» هو أحد مظاهر تقليل مساحة المنطقة العمياء، حيث تكون هى تلك المنطقة التى تمثل الجوانب أو المشاكل التى لا يعرفها المديرون عن أنفسهم، أو كيف يراهم مرءوسوهم. وكذلك فى مجال التسويق تعتبر بحوث التسويق أحد مظاهر تقليل مساحة المنطقة العمياء أيضًا لأنها تلقى الضوء على ما لا تعرفه المؤسسة عن نفسها والصورة العامة عنها فى السوق التى يعرفها عنها الآخرون.

ملخص القول، إن التوازن بين الأربع مناطق مهم ومطلوب.. الانفتاح على الآخرين ومشاركتهم بعض ما نخفيه مهم، لأن الناس لن تعرف وحدها إحنا بنحب إيه؟ وماذا نكره؟ وكيف نرى الحياة الدنيا إذا لم نتحدث ونعبر عما بداخلنا؟.

وكذلك الاستماع للآخرين ومحاولة فهم كيف يروننا مهم، لأن الآخرين هم مرآة لتصرفاتنا التى يمكن أن تكون بتفهم بشكل ما لا نقصده، وبالتالى فإن تسفيه آراء الآخرين سيفقدنا فرصًا كثيرة لعلاقات أفضل مما يؤكد المقولة المشهورة، كلما زاد عدد من نعرفه من الناس زادت معرفتنا بأنفسنا.. مهم أيضًا أن نحتفظ بجزء خاص بنا وحدنا يحمى خصوصياتنا دون أن يكون عائقًا أمام تواصل جيد وناجح مع الآخرين.. ويتبقى الأمر الأكثر أهمية دائمًا هو أن نعمل من وقت إلى آخر على اكتشاف تلك المنطقة بداخلنا، وفهم أنفسنا والآخرين بشكل أفضل.