رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الموالد.. طقوس واحتفالات من المعابد إلى المقامات

 

فى احتفالية تمثل عيد «الأوبت» المصرى، احتفل المصريين يوم الخميس ٢٥ نوفمبر بافتتاح طريق الكباش فى الأقصر، ويوم التلات ٣٠ نوفمبر احتفل المصريين بالليلة الكبيرة لمولد الإمام الحسين.

وإذا كان عيد «الأوبت» ومولد الحسين بتعتبر أعياد دينية، إلا أن مظاهرها تحولت لطقوس شعبية مقدسة فى الوجدان الشعبى. 

فمصر عرفت عبر عصورها المختلفة كتير من الاحتفالات الدينية اللى ارتبطت فى أذهان الجماعة الشعبية بمظاهر وطقوس استقرت فى الموروثات الشعبية، واقترنت بتقديم النذور والقرابين تقربًا لرموز دينية فى مناسبات مختلفة اصطُلح على تسميتها بـ«الموالد».

والمولد اصطلاحًا بيعنى الاحتفال بوقت الولادة للولى، وبيوم نياحة «وفاة» أو استشهاد القديس عند المسيحيين، ومش بالضرورة يوم الميلاد.

يُقام فى مصر أكتر من ٢٨٥٠ مولدًا سنويًا، بيشارك فيها أكتر من ٤٠ مليون شخص، ولعلنا نتساءل عن خصوصية مصر الفريدة فى إقامة الموالد اللى مفيش ليها مثيل فى أى دولة تانية، إذ بتتجاور الأديان وتتداخل مع بعضها فى طقوس شعبية يحضرها أصحاب الديانات جميعًا، زى مولد الأنبا برسوم العريان اللى بيقام فى شهر سبتمبر واللى بيحضره المسلمين باعتباره سيدى العريان المسلم.

وكمان مولد أبوحصيرة اللى بيحتفل بيه اليهود باعتباره يهودى وبيحتفل بيه المسلمين باعتباره ولى مسلم، وأوقف القضاء المصرى الاحتفال بيه سنة ٢٠١٤.

وإذا كانت الموالد راسخة فى الوجدان الشعبى عند المصريين فده لأنها امتداد لاحتفالاتهم الدينية والشعبية اللى كانت موجودة من ٥٠٠٠ سنة وأكتر، فهى إرث من أجدادهم، ولذلك لم تنقطع لما دخلت المسيحية مصر، فبنشوف مولد ستنا مريم العدرا اللى استمر الاحتفال به من القرن الرابع الميلادى، وكمان مولد الأنبا شنودة فى القرن الخامس الميلادى، والقديس مار جرجس والقديس سيدهم بشاى وأبوسيفين. 

واستمرت الموالد المصرية بعد دخول الإسلام، وبدأت الاحتفالات بشخصيات إسلامية يبجلها المصريون فى مقدمتها آل البيت النبوى، زى مولد الإمام الحسين والإمام على زين العابدين والسيدة زينب والسيدة نفيسة والسيدة سكينة فى القاهرة، وكمان موالد الأولياء والمتصوفة زى سيدى أبوالعباس المرسى وسيدى أبوالدرداء وسيدى جابر وسيدى بشر فى إسكندرية، وزى السيد البدوى فى طنطا وإبراهيم الدسوقى فى كفرالشيخ وسيدى الأربعين وسيدى الغريب فى السويس والقطب الكبير أبوالحسن الشاذلى اللى مولده من أكبر الموالد كافة، وهو شيخ أبوالعباس المرسى، اللى تتلمذ على يديه الصوفى الكبير ابن عطاء الله السكندرى. 

مصطلح «المولد» ماكنش معروف فى مصر القديمة بمفهومه الحالى، لكن النصوص المصرية بتشير إليه بـ«العيد» أو «الاحتفال»، والموالد الموجودة حاليًا هى امتداد لاحتفالات فرعونية قديمة، وما كان يفعله المصريون القدماء فى احتفالاتهم بموالد الملوك والآلهة، كان المصريين بيحتفلوا بمعجزات وخوارق تنسب للآلهة المصرية القديمة، وهى تشبه إلى حد كبير الكرامات اللى بتنسب للأولياء والقديسين.

الدكتور سليم حسن بيقول فى كتابه «موسوعة مصر القديمة»: «إن تاريخ الموالد يمتد إلى العصر الفرعونى، حيث كان المصريون يقيمون الاحتفالات الكبرى احتفاء بالآلهة، أو بالأحرى الملك المتوج على عرش مصر، وهذه الموالد الموجودة حاليًا تعتبر امتدادًا تاريخيًا لما كان يفعله الفراعنة فى الزمن الغابر».

خلينا نعرف إن الموالد أو الاحتفالات بالأعياد الدينية تم نقشها على جدران المعابد، وأهمها الاحتفال بعيد «عب نفر أون إبت»، أو كما يعرفه العامة «الأوبت»، وهو مولد قديم كان بيُحتفل به سنويًا فى عصر الدولة الحديثة خلال الشهر التانى من موسم «أخيت»، بمعنى الفيضان. 

واحتفال «الأوبت» بقى مهرجان رئيسى فى بداية الدولة الحديثة «حوالى ١٥٣٩- ١٠٧٥ قبل الميلاد» مع تولى الأسرة ١٨ السلطة، وكتب «جون دارنيل» أنّ «الأوبت» كان فى الصدارة فى عهد الملك تحتمس الثالث «١٤٥٨- ١٤٢٦ قبل الميلاد»، وكان المهرجان بيستمر لمدة ١١ يوم، وفى بداية عهد الملك رمسيس الثالث سنة ١١٨٧ قبل الميلاد، امتد ليكون على مدار ٢٤ يوم.

وزى ما بيحصل حاليًا فى الموالد، فإن الاحتفالات بالأعياد الكبرى كانت بتمتد لأسابيع، وحرص هيرودوت، المؤرخ الإغريقى، على تسجيل تفاصيل الأعياد فى مصر القديمة، وقال إنه أحصى من خلال نقوش معبد هابو فى غرب الأقصر أسامى ٢٨٢ عيدًا لها طقوس- تشبه طقوس الموالد حاليًا- وذكر أن الطقوس اللى كانت بتقام فى «بوباسطة» كان بيشارك فيها ٧٠٠ ألف شخص من الرجالة والستات على السواء، وكانوا بيركبوا مراكب فى النيل وبيمروا على المدن وهم بيعزفوا ويغنوا للآلهة المحلية الخاصة بكل مدينة، وبيدبحوا الدبائح وياكلوا مع بعض فى طقس دينى احتفالى.

والاحتفالات كانت فى موالد مصر القديمة بالرقص الإيقاعى والضرب على الدفوف والتحطيب وذبح الأضاحى، والعزف على الآلات الموسيقية زى «الشُخشيخة» والصاجات والطبول. 

وفى الموالد إحياء للأنشطة الشعبية كالحضرات والمواكب والخدمات اللى بتقدم الأكل والشراب لزوار الموالد، وبتكون الحضرة أهم الممارسات اللى بيمارسها المحتفلون بالمولد وبيشيع فى الحضرة «الذِّكر»، وبيقابل الموكب فى الاحتفالات القبطية «دورة الأيقونة»، وهى عبارة عن صورة أثرية للقديس عادة ما تكون مرسومة بالطريقة التقليدية لرسومات الأيقونات. 

فى الموالد والاحتفالات الدينية بتقدم القرابين والأكل والشراب، وهى عبارة عن مأكولات أهمها العيش بأنواعه- كان فى مصر القديمة ٤٢ نوع عيش- واللحمة والفطائر والزيت والبخور والعسل والبيرة والزيتون والتين والعنب والسمك.

وفى الموالد الإسلامية بتقدم «الخدمة» اللى هى أحد العناصر الأساسية الخاصة من أعضاء الطريقة، وبتكون عبارة عن سرادق أو خيمة بيتم فيها تقديم أنواع الأكل والمشروبات للمشاركين فى المولد مجانًا، وبتكون لحمة وخضروات، وبيتم تمويلها من النذور اللى بتقدم من بعض الأغنياء. 

وفى الموالد المسيحية بتقدم الخدمة فى أغلب أديرة مصر خلال الاحتفالات عن طريق الرهبان الموجودين تحت التمرين، وبتكون بتوفير الأماكن لإقامة الزائرين أو تقديم الأكل والمشروبات والإسعافات الأولية، ويتم تمويل الخدمة من التبرعات والنذور اللى بتقدم للدير أو باسم المحتفل به، أما الاحتفالات التى تقام خارج الأديرة فلا توجد أى خدمات مجانية زى اللى داخل الدير.

وتعد الموالد مناسبة جيدة لتقديم النذور، فنلاقى الوفاء بالنذر بيزيد فى المناسبات دى، ففى مصر القديمة بيزيد تقديم القرابين للآلهة المحلية الخاصة بكل مدينة، وبتكون عيش وبط وعسل وفطاير وفواكه، وبنشوف على جدران المعابد أشكال متنوعة من النقوش الخاصة بالقرابين والنذور.

وفى وقتنا الحالى بيحتل الوفاء بالنذور فى الموالد الإسلامية أهمية خاصة عند اللى بيعتقدوا فى الولى، وهناك أنوع مختلفة من النذور، منها الأموال أو النذور العينية والذبائح اللى بتقدم كطعام لزوار المولد.

وبتختلف أشكال النذور فى الاحتفالات المسيحية، ولا يرتبط تقديمها بمواسم معينة، ولكن فى الغالب بتتقدم خلال الاحتفال بالقديس أو الشهيد، وبتكون عبارة عن نذور الأموال والذبائح والشموع.

وأخيرًا تتعدد الأنشطة الترفيهية فى الموالد والاحتفالات، سواء كانت مصرية قديمة أو مسيحية أو إسلامية، ومن أهم مظاهر الابتهاج: الرقص والتحطيب على أنغام المزمار والطبول، وكمان ألعاب الحواة وألعاب القوة كضرب المدفع أو ألعاب النيشان بالبنادق، وكمان المراجيح للأطفال والكبار كمان، وأظن جميعنا لا ننسى أوبريت «الليلة الكبيرة» للعظيمين صلاح جاهين وسيد مكاوى، وتاخدنا الصورة الغنائية بمفردات المولد لدنيا من طقوس البهجة مطبوعة فى جيناتنا المصرية.