رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ميزان (نوبل) المائل!

أعلنت الأمم المتحدة، منذ أيام، عن اعتقال ما لا يقل عن ستة عشر من موظفيها المحليين في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، بينهم أفراد من أسر الموظفين، دون تقديم الحكومة الإثيوبية أي تفسير لاحتجازهم، لكن أبناء عرقية التيجراي، وبينهم محامون، أبلغوا عن اعتقالات واسعة النطاق في العاصمة على أساس عرقي فقط، مما خلق موجة جديدة من الاعتقالات (بسبب العرق)، شملت كبار السن وأمهات مع أطفالهن، وجعل الحرب الأهلية التي اندلعت في منطقة تيجراي، مرادفة لفظائع نظام آبي أحمد ضد المواطنين الإثيوبيين، بارتكابه مجازر واعتداءات جنسية وعمليات تطهير عرقي، وإعلان مسؤول كبير في الأمم المتحدة، (أن تيجراي في خضم مجاعة.. هي الأسوأ في العالم، منذ وفاة ربع مليون شخص في الصومال قبل عقد من الزمن).. الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن الأسباب الحقفيقية وراء منح رئيس الوزراء الإثيوبي، جائزة نوبل للسلام.. وموقف العالم وأصحاب الجائزة مما يدور الآن فوق الهضبة الإثيوبية، التي لم ترحم ساكنيها، وتعتدي على حقوق جيرانها في مياه النيل. 
إن احتراق أجزاء من إثيوبيا، كانت مجرد علامة على مسار مضطرب، حيّر المراقبين الدوليين، الذين راحوا يتساءلون: كيف أخطأوا في معرفتهم بآبي أحمد، بعد أن قال بيكا هافيستو، مبعوث الاتحاد الأوروبى، أمام البرلمان فى فبراير الماضى، إن القادة الاثيوبيين قالوا له (إنهم سيدمرون التيجراي، وإنهم سيبيدون التيجرانيين لمدة مائة عام).. ومثّلت الإدانة العالمية لآبي أحمد، وآخرها في مؤتمر قمة مجموعة السبعة، سقوطاً مذهلاً لمتهور، بدأ في التحرك بسرعة، وأطلق العنان لإحباطات مكبوتة بين المجموعات العرقية، وأبرزها جماعته، الأورومو، التي تمثل ثلث سكان إثيوبيا.. وعندما اندلعت الاحتجاجات الجماهيرية، عاد إلى كتاب اللعب القديم: الاعتقالات والقمع ووحشية الأمن، واستخدم الجنود الإريتريون (المجاعة كسلاح حرب)، بعرقلتهم شحنات المساعدات المتجهة إلى الأجزاء الأكثر ضعفاً في تيجراي.
لقد أدى تحول آبي أحمد، من الحائز على جائزة نوبل للسلام إلى زعيم في زمن الحرب، إلى قول جود ديفيرمونت، ضابط الاستخبارات الأمريكي السابق في إفريقيا، (إن بريق جائزة نوبل، والرغبة الشديدة في قصة نجاح في إفريقيا، أعميا العديد من الدول الغربية عن أخطاء آبي أحمد الواضحة).. فمع الاهتمام المحدود بإفريقيا، يصنف الغرب قادة القارة، بسهولة، على أنهم (جيدون) أو (سيئون)، مع مساحة ضئيلة للفروق الدقيقة بين الوصفين.. (علينا أن نعترف بأننا ساعدنا بالمساهمة في نظرة آبي إلى نفسه.. لقد تحدثنا عن هذه التحديات ـ ما يحدث في تيجراي ـ في وقت مبكر جداً.. أعطيناه شيكاً على بياض عندما حدث خطأ، غضضنا الطرف في البداية.. والآن قد يكون الأوان قد فات).
هنا، يتحمل أعضاء لجنة نوبل المسؤولية الكاملة عن منح جائزة السلام لعام 2019 لآبي أحمد، المتهم بتفجير الحرب في تيجراي، ولذلك ينبغي عليهم أن يستقيلوا جماعياً من مناصبهم المشرفة في لجنة نوبل احتجاجاً وتحدياً، وهي التي بررت منح جائزة نوبل لرئيس الوزراء الإثيوبي على (جهوده لتحقيق السلام والتعاون الدولي، ولا سيما لمبادرته الحاسمة لحل النزاع الحدودي مع إريتريا المجاورة).. مع أن القوات الإريترية صارت متهمة، إلى جانب القوات الاتحادية وقوات ولاية أمهرة الإقليمية الإثيوبية بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في تيجراي!، فيما تم الكشف عن العديد من المجازر ضد المدنيين، واغتصاب النساء والفتيات بشكل منهجي، وكانت البنية التحتية المدنية، مثل المستشفيات ومرافق المياه والمدارس والجامعات، أهدافاً مباشرة للقصف والنهب.
والأسوأ من ذلك هو العواقب الإنسانية.. واليوم، يحتاج حوالي 5.2 مليون تيجراني، أي حوالي 85٪ من سكان المنطقة، إلى المساعدات للبقاء على قيد الحياة، لكنها لا تصل إليهم.. ولا يجب الظر إلى تقدم التيجراي نحو العاصمة الإثيوبية، أديس أبابا، بمعزل عن عرقلة الجنود الإثيوبيين والإريتريين تقديم الأغذية والمساعدات الطارئة من الأمم المتحدة والمنظمات الدولية.. فمئات الآلاف في خطر الموت جوعاً، والاستنتاج القانوني النهائي، يجب أن يكون لمحكمة جنائية دولية في المستقبل ضد أبي أحمد.
فما هي إذن مسؤولية لجنة نوبل، تجاه شخص يستخدم الجائزة لإضفاء الشرعية على حرب الإبادة الجماعية ضد شعبه؟.. هل قاموا بتقييم شامل للمخاطر قبل منح الجائزة لرئيس وزراء لم يُنتخب ديمقراطياً، في بلد كان دائماً دولة استبدادياً؟ أم أن هذا ـ بعد فوات الأوان ـ شيء لم تكن اللجنة تتوقعه؟.
في العام الماضي، خرجت لجنة نوبل للدفاع عن الفائز بجائزتها، وإعادة تأكيد موقفها من هذه الجائزة.. وفي أوائل العام قبل الماضي، كان من المعروف أن الإصلاحات في إثيوبيا وعملية السلام مع إريتريا قد فقدت زخمها.. وكانت الإصلاحات السياسية في البلاد تتراجع.. وحذر البعض من أن جائزة السلام نفسها يمكن أن تزعزع استقرار المنطقة بدلاً من توطيدها.. وبعد بدء الحرب في تيجراي، تلقت لجنة نوبل مكالمة من مسؤول إثيوبى رفيع المستوى، قال فيها (سوف أحمل لجنة نوبل مسؤولية تدمير بلادنا، لأنه بحصول آبي على جائزة السلام، اعتبر ذلك اعترافاً بسياسته، ولم يستمع إلى الاعتراضات أو مخاطر ما يحدث في إثيوبيا).
وهناك انتقادات دولية لترشيح آبي للجائزة، وعدم اتخاذ لجنتها موقفاً من أي جرائم ضد الإنسانية، ارتكبتها قوات عسكرية بقيادة أحد الحائزين على نوبل.. لكن اللجنة التزمت الصمت، مواصلة تقليد قرن من الزمان، برفض مناقشة عملية التحكيم.. وقد أدت مبادرات منظمات الشتات الإثيوبية، بتحميل لجنة نوبل المسؤولية القانونية عن عواقب الجائزة، إلى الإضرار بسمعة جائزة نوبل.. إلا أن اللجنة تؤكد أن قواعد نوبل تنص على أنه بمجرد منح الجائزة، لا يمكن سحبها.. فكيف يمكن للجنة أن تعرب عن إدانتها للحرب وسياسات آبي إذا أرادت ذلك؟.. إلا أن المسئولية الأخلاقية تستوجب اعترافهم بالخطأ في منحهم الجائزة له، وأن عليهم أن يستقيلوا جماعياً، وأن يسمحوا للبرلمان النرويجي بتعيين لجنة جديدة.. وفي الوقت نفسه، ينبغي لمعهد نوبل أن يرتقي بخبرته، وأن يجري تقييمات شاملة للمخاطر، وأن يحلل الصراعات والسياقات ذات الصلة التي تستند إليها الجوائز.
يقول كجيتل ترونفول، أستاذ دراسات السلام والصراع في كلية جامعة بيوركنيس النرويجية بأوسلو، أنه يتعين على الأحزاب السياسية في النرويج أن تتخلى عن تقليدها بترشيح السياسيين المتقاعدين أعضاءً في لجنة جائزة نوبل، وينبغي جلب الأعضاء الدوليين، أصحاب الخبرة في تخصصات الجائزة.. فإسم نوبل يحمل وزناً دولياً، ولابد من لجنة ذات قدرات عالمية أن تحميه.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.