رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اللعب فى جزر منعزلة

دائمًا هناك من ينظر إلى الجمهور على أنه غير مؤهل للحديث عن الأنشطة الجماهيرية مثل كرة القدم والسينما على سبيل المثال، وأن المطلوب منه أن يحمد الله على نعمة الخبراء الذين احتلوا الشاشات والصحف والمواقع الإلكترونية، ويعتقد هؤلاء أن لاعبى كرة القدم المتقاعدين هم أقدر الناس على مخاطبة الجمهور فيما يتعلق باللعبة، رغم معرفتنا جميعًا أن غالبية المصريين يحبون اللعبة ويفهمون فيها، ربما أكثر من نجوم الاستديو التحليلى، الذين نادرًا ما يخرج من أحدهم شىء لامع لا يعرفه المتابع.

لقد تم اختطاف الحديث عن اللعبة وخططها ومعاركها وانتخاباتها، رغم معرفة الجميع أنها فى النهاية لعبة، وأن جمهورها يعرف أسرارها أيضًا، وأنه لعبها ويلعبها أولاده، وليس شرطًا أن تكون لاعبًا سابقًا فى الأهلى أو الزمالك أو الإسماعيلى لكى تكون خبيرًا كرويًا، تعلق على مباراة شاهدها الجمهور معك، ولا توجد أسرار فيها.

أحد عشر لاعبًا أمام أحد عشر مثلهم حولتهم الرأسمالية إلى أشخاص يقدمون عرضًا فى استديو ضخم يدر دخلًا، وصنع حول هذا الاستديو حكايات ووجوه تليق بـ«الشو» الذى نصبت الكاميرات لمتابعته.

النقاد الرياضيون أيضًا أصبحوا فئة فى المجتمع، يتحركون معًا، ويتوجسون من دخول آخرين إلى ملعبهم، ولهم روابطهم النقابية، رغم انتماء معظمهم لنقابة الصحفيين.

كرة القدم تاريخيًا هى لعبة الفقراء، نجح تجار «فيفا» فى تسليعها، ولكى يشاهد الفقراء لعبتهم هذه عليهم أن يدفعوا أولًا، تم التخلى عن المدرب التقليدى الذى يحرض لاعبيه على الاستمتاع باللعب والارتجال، وتم اختراع منصب المدير الفنى الذى لا يبحث عن الفن والمتعة بقدر ما يبحث عن النقاط.

قبل عشرين عامًا تقريبًا كان الروائى الكبير خيرى شلبى يكتب مقالًا أسبوعيًا عن كرة القدم فى مجلة الأهرام الرياضى، وكان نجم مصر والأهلى الكبير حسام حسن تسبب فى مشكلة ما، فكتب صاحب وكالة عطية والوتد وموال البيات والنوم الزملكاوى مقالًا يحلل فيه كروائى شخصية النجم الكبير.

لم يكن المقال فى صالح حسام، لأنه تحدث عنه كشخصية روائية مرتبكة من الداخل ومأزومة نفسيًا، فى هذه الأثناء استضاف محمود سعد كابتن مصر فى برنامج أعد الحلقة فيه صديقنا حسن عبدالفتاح، قرأ عليه مقاطع من مقال العم خيرى، ثار حسام وهاج، وسأل : «مين خيرى شلبى ده؟، كان بيلعب فين؟»، أجابه سعد: إنه الروائى الكبير وأحد رموز مصر، فقال له حسام: «يعنى مش لعيب وما بيجيبش إجوان زيى؟»، وبدأ يقول بعصبية: «هو بيكرهنى ليه؟».

يعنى أنك لكى تتحدث عن الكرة يجب أن تكون لاعبًا أو ناقدًا معتمدًا، فى حين أن الذى يشاهد معك المباراة على المقهى ولا تعرفه قد يكون أفضل من المفروضين عليك وهو يتفاعل مع كل لعبة، فما بالك بروائى عظيم، وهذه ليست مشكلة كرة القدم فقط، السينمائيون يعتبرون أنفسهم هم الأقدر على تناول الصناعة ومشاكلها وجوائزها، وأى شخص يتحدث فى المسائل الملتبسة من خارجهم ينظرون إليه بريبة، وأيضًا التشكيليون والمسرحيون وما إلى ذلك.

كل فئة فى المجتمع اكتفت بنفسها، ولم يعد هناك تناغم بين الفنون الجماهيرية، ولا يوجد من يتم الاحتكام إليه فى المسائل الخلافية، إلى جوار هذا انظر إلى المساحات التى يشغلها الزملاء الصحفيون فى الإعلام الذى يشكل وجدان الناس، المذيع صحفى والمعد صحفى والضيوف صحفيون، يتحدثون فى أشياء ليسوا متخصصين فيها، ستجد الشخص نفسه يتحدث كخبير عن سد النهضة وعن ليبيا وعن علاقات مصر الثنائية مع كل الدول وعن الإرهاب، وتكتشف أيضًا أنهم خبراء فى مسألة لا يجوز العبث فيها وهى مسألة الدين، كل واحد يرى نفسه رفاعة رافع الطهطاوى أو على عبدالرازق أو طه حسين، وأنه يخوض معركة التحديث من أول وجديد، هم لا يعرفون أنهم بهذا يقدمون خدمة كبيرة للمتطرفين الذين تخلص الشعب منهم بصعوبة.