رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صراصير الأرض تحتل شوارعنا

اصبحنا في مواجهة أربعة ملايين (توك توك)، أو كما أحب تسميتها بـ (صراصير الأرض)، تحتل مساحات الفراغ في شوارعنا، وتمنع عن مواطنينا حق السير في الشوارع، براحة وأمان.. وسيلة نقل تمحي أربعة ملايين حرفي، وتنذر بكارثه في وقت ليس بالبعيد، إن أهملتها الدولة وظلت ملتزمة الصمت تجاه تلك المأساة، التي تقضي على روح وهوية وحضارة مصر.. دخلت إلينا في عهود سابقة، تحقيقاً لأطماع بعض من كان يملك أوراق الاستيراد في مصر، بلا حسيب أو رقيب، وليس من المقبول الآن أن تقف الحكومة مكتوفة الأيدي، أمام ظاهرة تشوه المظهر الحضاري الذي يسعى ويحارب من أجله الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي حقق طفرة عمرانية، لا يمكن لأحد أن ينكرها، من أجل بناء جمهورية جديدة وحضارية، يفتخر بها كل مواطن على أرض مصر.
المشكلة الحقيقية وراء (التوك توك)، هو ضياع أكثر من حرفة وتعرضها للاندثار، نتيجة اتجاه الشباب، ممن لم ينالوا حظهم من التعليم، إلى تلك الوسيلة لجلب الرزق، ولم يعد هناك اهتمام أو نظرة تجاه كثير من الحرف التي كانت هي الوجهة الرئيسية للعمل إن ضاعت فرصه التعليم.. أين تلك الحرف البسيطة التي شكلت الإنسان المصري والتي تعبر عن هويته، وحفظها من الاختلاط مع الهويات والثقافات الأخرى؟، تلك التي كانت، في وقت من الأوقات، ترفع اسم مصر عالياً.. بل نصل إلى الأهم، وهو أن هناك واقعاً مؤسفاً في شوارع مصر، انتشر بشكل بشع في المناطق العشوائية، ولم تنحصر مشكلته في انتشار جرائم وحوادث السرقة والخطف في المجتمع وحسب، إذ أصبح وسيلة لكثير من المجرمين لارتكاب جرائمهم، لأنه يوفر لهم كل ضمانات الحماية، فلا أحد يستطيع أن يسجل رقم يحمله (التوك توك)، لأنه غير موجود أصلاً، حتى يميزه عن الآخر باعتبارها مركبات متشابهة، لا يمكن أن يميزها شاهد عيان، أو حتى كاميرات المراقبة.
أصبح (التوك توك) حقيقة مؤلمة ومؤسفة فى حياة المصريين، بل وضرورة فى كثير من الأحيان، وتلك هي المفارقة.. وبالتالى يصعب إلغاؤه؛ كما يطالب بذلك مجلس النواب وخبراء الاقتصاد، لأن هناك ملايين تعتمد عليه، سواء كوسيلة مواصلات، أو مصدر عمل للبعض.. والمشكلة أنه أصبح وسيلة يستخدمها البعض فى ارتكاب جرائم، كما يتسبب فى كثير من الحوادث اليومية فى قلب الشارع المشحون بالغضب؛ نتيجة عدم تنظيم استخدامه؛ ولم يعد يدهشنا أن نجد أطفالاً يتولون قيادته، كما أنه ليس هناك أى ضوابط أو فحوصات للمركبة أو لقائدها من إدارات المرور.
صاحب الثلاث عجلات، الذى يتبختر ليل نهار فى شوارع مصر، وجد تربة خصبة ينمو ويترعرع فيها كيفما يشاء، فعلى مدار ستة عشرة عاماً مضت، أصبح فيها (التوك توك) (تاكسى الغلابة)، لكن خبراء الاقتصاد اكتشفوا أنه أضاع على الدولة أكثر من إحدى عشر مليار جنيه.. الحقيقة المرة أن خطورة تلك المركبة الصغيرة ذات العجلات الثلاث، ليست فقط فى سلوك السائقين وانتشار تعاطى المخدرات بينهم، ولا حتى أن معظمهم من البلطجية الذين يرتكبون جرائم السرقة نهاراً، لكن الخطورة تكمن فى أن ذلك (التوك توك) بدأ فى دهس حرف ومهن يدوية، قد تصبح نادرة أو تتعرض للانقراض، بسبب ابتعاد الصبية، ممن لا يلقون حظهم فى التعليم، عن تعلم وامتهان الحرف اليدوية، هرباً من المجهود البدنى، والالتزام بالتعلم فى ورش تؤهلهم لسوق العمل الكريم.. لقد صار (التوك توك) آفة مصر المرورية بامتياز منذ ظهوره عام 2005، ونغص حياة المواطنين على مدار أكثر من ستة عشر عاماً، رغم محاولاتنا التعايش مع هذا الشيء، كوسيلة نقل سرقت منا جميع العمالة الحرفية والفنية التى كانت ماهرة، فبفضل ظهوره، لم يعد هناك صبية للنجارين والميكانيكية، وجميع الأعمال اليدوية لهذه المهن، التى لطالما اعتمدت على شباب صغار السن وتعليمهم ومنحهم الخبرة، لكى يصبحوا أصحاب مهن حرة فى المستقبل، وكانوا سبباً مهماً للغاية في تيسير وتسهيل أعمال الورش والمصانع.
ربما يقول البعض، إن من اتخذوا (التوك توك) وسيلة لكسب الرزق، هم من ضاقت بهم طوابير البطالة، وهم من أغلقت في وجوههم أبواب العمل.. وربما يذهب البعض إلى ما أبعد من ذلك، ويقول إن هذه الوسيلة تسد عجز الحكومة عن توفير وسيلة مواصلات للمناطق النائية.. أو يذهب فريق ثالث إلى القول أن (التوك توك) يمتلك بطبيعته كوسيلة سهلة الوصول إلى الشوارع الضيقة لمساعدة كبار السن والمرضى في التنقل.. بالتأكيد أن المنفعة الثلاثية أو ربما تزيد المنافع عن ذلك، لا يعني تجاهل المخاطر وغض الطرف عن المشاكل، كما لا يعني أيضاً وقف المشروع برمته، بل ما هو مطلوب، هو إعادة تقنيين أوضاع (التوك توك) عبر تحيد مسارات مرورية وأطر واضحة، تحقق المنافع وتجنب البلاد المخاطر.
المادة 7 من قانون المرور رقم 121 لسنة 2008 تضم فقرتين.. الأولى تشمل تعريف (التوك توك)، والثانية تحدد أماكن سيره وتحذر من وجوده على الطرق السريعة، وكذلك في المدن وخارج المحافظات لكن في عام 2014، حدثت كارثة تشريعية، حيث صدر قرار رقم 59، باستبدال هذه المادة، وهي المادة بأخرى جديدة، لكن ما حدث هو تعديل الفقرة الأولى في المادة، والتي تشمل تعريف (التوك توك)، وبالنسبة للفقرة الثانية التي تشمل ضوابط سيره، فقد تم حذفها أو نسيانها، وبالتالي، فإن القانون الحالي ليس فيه ضبطاً لسير (التكاتك) ولا تحديد لأماكن السير، بل إن (التوك توك) غير مذكور في القانون إلا في فقرة واحدة فقط، تشمل تعريفه كمركبة سريعة، وبالتالي نحن أمام كارثة تشريعية وفجوة قانونية تتسبب في فوضى السير، والعشوائية التي تعاني منها المدن والعواصم والطرق السريعة والشوارع الرئيسية.. وللأسف، لا يمكننا محاسبة (التوك توك) على هذه العشوائية في السير، لأن القانون لا يعاقب عليها، وبالتالي نحن أمام فوضى بأمر القانون.
ويبقى السؤال..
هل سينتهي بنا الحال إلي أن يكون (التوك توك) والدرجات النارية، التي استفحلت أعدادها أيضاُ، وغير المرخصين، ظاهرة لا يمكن التخلص منها، وهل سنقف مكتوفي الأيدي في وجه عشوائية السلوك هذه، في وقت تبني فيه مصر مجدها الجديد، وتعلن عن (الجمهورية الجديدة)؟.. أثق أن الأيام القادمة ستحمل حلاً، يتناسب مع ما أصبحت فيه مصر تنمية وتقدم، ووجه حضاري صنعته بأيادي أبنائها.