رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جسد المرأة وإلغاء حالة الطوارئ

لا أصدق ما قرأته مؤخرًا فى إحدى الجرائد على لسان مدير إدارة الأبحاث الشرعية، أمين الفتوى "أحمد ممدوح" فى دار الإفتاء المصرية بخصوص ترقيع غشاء البكارة قال: "إن ترقيع غشاء البكارة مشروع فى بعض الأحوال مطلوب ومشروع، كأن تكون الفتاة قد تم اغتصابها أو التغرير بها وتريد أن تتوب وتفتح صفحة جديدة، الترقيع هنا من باب الستر ولا يغرر بأحد"، وردت هذه الفتوى للإجابة عن تساؤل إحدى الطبيبات التى تقوم بترقيع غشاء البكارة.
أهذا كلام معقول ومنطقى؟ أول شىء يدهشنى هو أن دار الإفتاء التى تمثل الدين الإسلامى تتدخل فى أخص خصوصيات المرأة أو الفتاة "جسدها"، ولا أعتقد أن هذا أمر صائب أو إيجابى أو مطلوب فى دولة المفروض أنها "مدنية" وتريد تحقيق المجتمع المدنى عام 2022.
أما الفتوى نفسها فتعامل الفتاة التى تم اغتصابها أو التغرير بها وهى هنا "الضحية" "المعتدى عليها" بالاغتصاب أو التغرير كأنها سيئة السمعة، "ماشية على حل شَعرها"، لأنها تقول فى إجازة الترقيع "تريد أن تتوب وتفتح صفحة جديدة"، شىء غريب جدًا أن تلبس الفتاة "التهمة" هكذا فى عرض النهار على الملأ ويتم تصويرها أنها "منحرفة السلوك" لكننا سوف نعفو عنها لأنها تريد التوبة وصفحة جديدة.. ما هذه الأوضاع المقلوبة؟ ما هذا التزوير العلنى فى جرائم إنسانية مثل الاغتصاب أو التغرير بالفتيات؟
الفتوى لم تذكر كلمة عن "الفاعل" المغتصب الجانى الأصلى أو الذى ضحك على عقل فتاة صغيرة.. ماذا نسمى هذا؟ لا أصدق أن دار الإفتاء المصرية تأخذ من موارد الدولة  298، 295 مليونًا و510 آلاف جنيه، (2021 – 2022) فى بلد موارده محدودة وبزيادة 76 مليون جنيه (34%) على العام الماضى لكى تصدر للشعب المصرى مثل هذه الفتاوى التى لا تتفق مع العقل السليم ومع العدل، فتاوى تبرئ الجانى وتفترى على الضحية وتتهمها فتاوى تناقض جوهر الشرف الحقيقى ووضوح الأخلاق والصدق والاعتراف بالحقيقة.
وبما أن الفتوى جاءت على رد إحدى الطبيبات، التى تقوم بترقيع غشاء البكارة للفتيات فهذا معناه أن هذا الترقيع أصبح "بيزنس" للتكسب مسلحًا برخصة شرعية من دار الإفتاء المصرية، وتقول الفتوى إن هذا الترقيع من باب الستر ولا يغرر بأحد كيف؟ إذا كان كل هذا الترقيع من أجل أن تكون الفتاة عذراء عند الزواج ألن يكون الزوج هنا "مغررًا به"، حيث يتأكد أن الفتاة لم يمسها رجل غيره؟
مشهد مضحك ويدعو إلى الأسى فى آن واحد، فى ليلة الدُخلة المباركة الشرعية يستلم العريس عروسته البكر البتول سعيدًا لأنه "البطل المغوار" الأول الذى اخترق حصن الغشاء المقدس والعروسة تضحك من أعماقها على زوجها الساذج المخدوع  المضحوك عليه بالشرف المزيف بـ"غُرزة" شرعية مقننة.
فى ليلة الدُخلة المباركة الشرعية ينام الجميع مطمئن القلب على "الشرف" الرفيع: الأسرة والعائلة وطبيبات الترقيع ودار الإفتاء تلك "المحمية الطبيعية" بالترقيع، لا أعتقد أن هناك مجتمعات مثل مجتمعاتنا، مؤرقة فى نهارها وليلها بالجدل حول «شرف البنت» و«شرف المرأة» و«عذرية الفتاة»، ومنشغلة على مر عصورها وأزمنة السلف الصالح، وغير الصالح، بـ«مراقبة» ماذا تفعل المرأة بـ«النصف الأسفل» من جسدها، وإصدار الأحكام الأخلاقية والاجتماعية والثقافية والدينية.
نظرة سريعة إلى حال مجتمعاتنا وتفزعنا الحقيقة، الكل يتسابق ليدلى بدلوه فى قضية شرف البنت، الكل متحفز لقول كلمته عن شرف المرأة، فالتقاعس عن ذلك يعتبر من باب الخيانة التى لا تغتفر، فشرف البنت، أو شرف المرأة، فى عرف المجتمع الذكورى هو شرف الأسرة، وبما أن الأسرة هى نواة المجتمع الأولى يكون «شرف» المرأة هو شرف المجتمع الذكورى كله بالضرورة، والكل «طواعية» مدفوعًا بنوازع الوطنية، وحماية الأخلاق، وشرف البلاد، يدخل فى «المزايدات» حول جسد المرأة وعذرية المرأة، والتى تعكس ثقافته ومصالحه ومزاجه وفكرته عن الشرف والأخلاق وعفة الجسد.
الكل يقول كلمته حول جسد المرأة وشرفها إلا المرأة نفسها، صاحبة الجسد، ومالكة الجسد، تظل المرأة مختبئة وراء أنواع من «الأحجبة»، سواء من القماش أو من القيم، صُنعت تاريخيًا، لكى تتلقى مبتسمة رأى الذكور فى جسدها وحكم الذكور فى أخلاقها ووصاية الذكور عن شرفها وعذريتها.
قُدّر للمرأة أن تحمل لعنة الجسد الملتصق بها، تعانى ما يحيطه من قيم الأنوثة المزيفة، وما يسببه من أوجاع شهرية وتغيرات هرمونية ومضاعفات الحمل والولادة وعبء تنظيم النسل وأضرار العنف الجسدى وابتذال العرى لترويج السلع فى المحلات والإعلانات والمهرجانات والحفلات. كل ذلك دون أن يكون لها حق ملكية هذا الجسد، أو شرعية التحدث باسمه والدفاع عنه أو حتى مجرد الغضب مما تبثه أنظمة التسلط الذكورية.
وتتجدد دائمًا، حوادث «العذرية» و«اغتصاب» الفتيات، وكم أفزعتنى وأدهشتنى الآراء التى قيلت عن كيفية «إعادة العذرية»، وبالتالى استرجاع الشرف للفتاة المغتصبة، حتى لا يقتلها الزوج فى ليلة الزفاف. إن «إعادة العذرية» بالخياطة وعمل غرز ليست فقط جريمة «طبية» ولكنها فى المقام الأول جريمة «أخلاقية» و«إنسانية» فى حق الفتاة المُغتصبة.
ألا يكفى أن الفتاة قد تعرضت لاعتداء جنسى، قد يصيبها بعقد جنسية ونفسية، لا حل لها؟ إن الاغتصاب اعتداء من فرد عليها واعتداء قد أُجبرت عليه لكن «إعادة العذرية» بالخياطة والغرز والترقيع الشرعى، اعتداء جماعى من المجتمع بأسره مدفوعة إليه باختيارها، وعلى ملء سمع وبصر الجميع.
والكارثة الكبرى أنه «اعتداء» يتم تحت اسم الشرف والأخلاق والفضيلة، الكارثة الكبرى أن الفتاة المغتصبة من «ذكر» فالت الشرف، متسيب الأخلاق معدوم الفضيلة، هى الضحية المجنى عليها، ولكنها هى المطالبة من قِبل المجتمع بأن تدفع ثمن عدم الشرف وعدم الأخلاق وعدم الفضيلة للجانى، يطالبها المجتمع وهى الضحية بأن تضع جسدها المغتصب على مائدة الشرف المزيفة وتخضعه لعمليات القص واللزق والترقيع غير الأخلاقية، برخصة من دار الافتاء المصرية المتحدثة بما يجب أن يكون وفقًا للدين الإسلامى.
أما الذكر القائم بالاغتصاب فهو حر تمامًا، وجسده فى مأمن ومحاكمته متهاونة، رقيقة، متفهمة للنوازع الكامنة، والدوافع الغريزية والكبت المتراكم وحقيقة موروثة تقول «الراجل ميعيبوش إلا جيبه». إن شرف البنت أو شرف المرأة ليس «غرزة» يتم ترقيعها أو عدم ترقيعها، إن شرف البنت أو شرف المرأة، ليس مكانه النصف الأسفل للجسد، إن الشرف حتى يكون حقًا «شرفًا» أو فضيلة، أو أخلاقًا، لابد أن تطبق معاييره على جميع البشر، دون تفرقة بين رجل وامرأة، بين غنى وفقير، بين أبيض وأسود، معايير واحدة لكل الأديان والملل والمذاهب والعقائد والأفكار.
شرف الإنسان لابد أن يكون واحدًا، ولابد أن يكون مرتبطًا بالنصف الأعلى من الجسد، أى بالعقل والتفكير، فالعقل هو الذى يعطى الأوامر للجسد، والتفكير هو الذى يميز بين الأدب وانعدام الأدب. والتفكير مكانه النصف الأعلى من الجسد وليس أسفله.
شرف الإنسان «رجلًا أو امرأة» هو قدرته على الاستقلال الاقتصادى والنفسى، هو القدرة على مواجهة العالم بما نؤمن به ونفعله، وليس إخفاءه تحت اسم «الخوف من التقاليد»، أو «إعادة العذرية»، أو «ديكور الأخلاق» الشرف هو القدرة على السباحة ضد التيار ودفع ثمن اختلافنا إن شرف المرأة هو فى عقلها وشخصيتها وفلسفتها، لتغيير ذاتها من كيان تابع مقهور إلى كيان حر مستقل. شرف المرأة هو رؤيتها النقدية لمجتمعها لتغييره إلى الأشجع والأعدل والأجمل والأصدق.
إن مفهوم مجتمعاتنا عن «الشرف» مخجل ومضحك ومحزن فى آن واحد. كيف للإنسان العربى «الرجل العربى والمرأة العربية» أن يواجه مشكلاته الحاضرة وتحدياته المستقبلية، وهو مقتنع بأن الأخلاق والفضيلة، فى أسفل أجساد النساء، مشاريع «غرز» محتملة؟ كيف للرجل العربى أن يثق فى مجتمعه ويشعر بالانتماء إليه ومجتمعه يطالب أخته أو ابنته أو خطيبته الفتاة المغتصبة «من رجل آخر»، بأن تخفى الأمر بـ«الترقيع» وتمارس الكذب الشرعى؟
ما هذا المجتمع الذى يتعاطى الكذب والترقيع باسم الشرف؟ وما هذه المجتمعات التى تختصر المرأة الإنسانة العاقلة المفكرة الرشيدة فى «غرزة»؟ إنها حقًا "غرزة" فيها "اتغرزنا" حتى القاع، لقد تعودنا على "الترقيع" فى كل القضايا، مفيهاش حاجة يعنى لما نرقع غشاء البكارة على رأى المثل: "يعنى غشاء البكارة هو اللى وقع من قعر القفة؟ بكامل الترقيع.
إحقاق الحق وعدم التمييز وتطبيق العدالة يجعلنا نتبنى شعار "الترقيع للجميع" لقد ألغى الرئيس السيسى مد حالة الطوارئ منذ أيام التى امتدت سنوات طويلة وسعدنا أن الحياة المصرية ستعود إلى الطبيعية، ولكن يبدو أنه قد قُدر على المرأة أن تكون كل حياتها من الميلاد حتى الموت "طوارئ" تتجدد مددها ومساراتها.
لا أدرى هل بين المؤسسات الدينية فى مصر "ثأر" بايت بينها وبين الشعب المصرى خاصة النساء؟ كلما أردنا أن نفتح نافذة صغيرة وجدنا مئات الحوائط الأسمنتية.. إلى متى؟