رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أصل النغم.. الموسيقى والغناء فى مصر

القيثارة والهارب والناى والعود بكل أنواعه والصاجات والطبل والدفوف من اختراع المصريين

المصريون أعطوا الإسكتلنديين «القربة الموسيقية» ومنحوا اليونان آلة «الكنارة» الموسيقية

الشيخ محمد عبدالرحيم ابتكر موسيقى مصرية أصيلة لها طابعها الشرقى والغربى

محمد عبدالوهاب كان من أوائل الموسيقيين خارج نطاق المشايخ

معظم الآلات الموسيقية المستخدمة حاليًا هى من اختراع المصريين ومنها «القيثارة، الهارب، الناى، الناى المزدوج (الأرغول)، العود بكل أنواعه، الصاجات، والكنارة (الطنبور- السمسمية)، والطبل والدفوف».

وكمان المصريين هم من ابتدعوا وظيفة «المايسترو» اللى بيوجه الفرقة بإيديه، كما ابتدعوا «التخت» الموسيقى والغناء الجماعى «الكورال» الذى تصاحبه فرقة موسيقية، وكمان ظهر الغناء الفردى والغناء الثنائى «الدويتو»، وكان الغناء ملازمًا للحياة اليومية للمصريين.

وخلينا نعرف أن المصريين هم اللى أعطوا الإسكتلنديين «القربة الموسيقية»، وهم دلوقتى بيشتهروا بـ«موسيقى القرب»، كمان أعطوا اليونان آلة «الكنارة الموسيقية».

كان السلم الموسيقى المصرى فى بدايته خماسيًا وتغير فى عصر الدولة الحديثة من الخماسى إلى السلم السباعى، وكان السلم الموسيقى يتكون من سبعة رموز هى نفس رموز الكواكب السبعة.

وخليلنا نعرف إن كل الأدلة التاريخية تُثبت أن الغناء والموسيقى والرقص تعد جزءًا أساسيًا من الثقافة المصرية، وجزءًا من طقوس الحياة اليومية، فقد كانت أغانى الفلاحين هى الأقدم وكانت تصاحب مجموعات الباذرين والحاصدين من بداية الأسرة الفرعونية الأولى سنة ٣٤٠٠ ق. م، وبعدين بقت بتصاحب العمال فى البناء والحرفيين والبياعين، زى ما هو مسجل فى البرديات وعلى جدران المعابد.

ظهرت الأغانى المتخصصة بكل عيد من أعياد السنة وبكل محصول، ولكل شهر ولكل فصل من فصول السنة الثلاثة، «فصل (آخت) الفيضان، فصل (برت) البذر والزرع، فصل (شمو) الحصاد»، وده مستمر حتى هذه اللحظة.

اتكلم مؤرخين كتير عن فضل الموسيقى المصرية فى تطور الموسيقى وانتشارها عالميًا فى الوقت ده، وزى ما أشار «هيرودوت» إلى أن الموسيقى والأغانى المصرية اللى سمعها أصبحت فيما بعد ألحانًا شعبيةً فى اليونان يرددونها فى كل مكان، وكمان ذكر «أفلاطون» فى مؤلفاته: أن الشعب اليونانى عليه أن ينتقى من الموسيقى المصرية ما يشاء إن أراد الاطلاع على فنون الآخرين؛ لما فيها من عناصر فنية وأخلاقية وتربوية على عكس موسيقى الشعوب الأخرى.

تطورت الموسيقى والغناء المصرى خلال الدولة العباسية، وتم ابتكار طرق جديدة للتأليف والتلحين، ولكن ذلك كان فى المدن ووسط الطبقة الميسورة والقريبة من دوائر الحكم بس، أما فى الطبقات الشعبية ووسط الفلاحين وفى الصعيد فلم تتأثر أشكال الموسيقى والغناء المصرى المستندة على حضارتها المتغلغلة فى ذائقة ووجدان المصريين، فهناك حافظ المصريون على فنونهم كلها، وخصوصًا فى الصعيد، فظلت الآلات الموسيقية الأصلية وفن العدودة والأهازيج وغناء المزارعين والعمال والبياعين، وأغانى الستات فى المناسبات واللى احتفظت بإيقاعاتها ومعانيها القديمة. 

وبتطور الموسيقى العربية اللى مرت بمراحل متعددة قدم خلالها كثير من العلماء البارزين زى الكندى والفارابى، كتير من الدراسات والنظريات العلمية المهمة فى مجال الموسيقى، فقد نشر الفيزيائى والفيلسوف والموسيقى وأبوالطب الأشهر «الفارابى» (٨٧٢-٩٥٠ م)، واللى بيُعد المعلم الثانى بعد أرسطو، كتابًا مهمًا عن الموسيقى هو «كتاب الموسيقى الكبير»، يوثق فيه نظام نغمات عربية خالصة، لسه بيستخدم حتى اليوم.

وكمان بنشوف إن عالم الاجتماع الأشهر «ابن خلدون» «١٣٣٢-١٤٠٦م» خصص الفصل ٣٢ من مقدمته الشهيرة للموسيقى والغناء، مشيرًا إلى أن النهضة الموسيقية العظمى اللى شهدتها الدولة العباسية.

فى أواخر القرن ١٨، تم إنشاء أول مدرسة موسيقية وغنائية فى العصر الحديث كانت متأثرة بالموروث الحضارى الفنى المصرى، وقدرت المدرسة إنها تُوائم بين جماليات الإنشاد والابتهالات الدينية المستمدة من غناء المعابد المصرية، والمطعمة بالتديّن المصرى المتسامح وبين حيوية الغناء الحديث، بإضافة وتجديد فى الموسيقى والأداء، وقد قام بذلك مجموعة من المشايخ المعروفين، وكان أولهم الشيخ المسلوب «محمد عبدالرحيم» «١٩٢٨-١٧٩٨» ابن الأزهر الشريف، واللى أصبح أستاذًا لمعاصريه ومن جاءوا من بعده زى خليل محرم، ومحمد الشلشلمونى، وعلى القصبجى «أبومحمد القصبجى»، ويوسف المنيلاوى، وعبده الحامولى ومحمد عثمان وسلامة حجازى وغيرهم، فهو اللى ابتكر موسيقى مصرية أصيلة لها طابعها الشرقى والغربى، ومتأثرة بالبيئة المصرية خاصة فى بدايات القرن ١٩.

فى أواخر القرن ١٩ وبدايات القرن٢٠، كانت مصر مركزًا للموسيقى والإبداع ومنارة الثقافة والتنوير فى المنطقة، ليتم إحلال الموسيقى المصرية الوطنية بدلًا من الأغانى الإنجليزية أو الفرنسية أو التركية.

وهنا ظهر الشيخ «سلامة حجازى» «١٩١٧-١٨٥٢» وقدم المسرح الغنائى وكان سبّاقًا فى مزج الموسيقى الشرقية والغربية.

ولحقه الشيخ «أبوالعلا محمد» «١٩٢٧-١٨٨٤» وهو أول من قدم القصيدة المغنّاة الموقّعة عبر مقام موسيقى محكم لا مجال فيه للارتجال، ويُعتبر نموذجًا للغناء العربى الكلاسيكى. 

وبعده جاء الشيخ «سيد درويش» «١٨٩٢-١٩٢٣» اللى طوّر الموسيقى العربية، ويُعتبر أبوالنهضة الموسيقية فى مصر.

وبعدين جاء «محمد عبدالوهاب» كواحدٍ من أوائل الموسيقيين خارج نطاق المشايخ ولكنه أكمل ما تركه سيد درويش وبنى على ما تركه سابقوه.

تطورت الموسيقى والغناء فى مصر وتجاوزت ما قدمه موسيقار الأجيال الذى يُعد الآن كلاسيكيًا، مع أنه كان مرفوضًا -وقتما ظهر- واعُتبرت ألحانه وطريقة غنائه كسرًا للمتعارف عليه، ومثلما حدث مع سيد درويش من رفض ومحاولة إقصاء من النُخب الفنية اللى كانت مهيمنة على الساحة وقتها، إلا أن موسيقاه تبناها الشعب وحمتها وحفظتها الجماهير اللى وجدت فيها ما ألفته ذائقتها الحضارية.

ولما جاء عبدالحليم حافظ تم رفضه على كل المستويات وكذلك محمد فوزى ومنير مراد اللى بيعتبروا من أهم المجددين فى الموسيقى والأداء، واللى بيعتبروا جميعًا من القدماء بالنسبة للأجيال الحديثة.

وبظهور الأجيال التالية من الموسيقيين والمؤديين والمغنيين وظهور فرق موسيقية كانت مجتهدة ومجددة، وقد ظهر هؤلاء فى عزّ المدّ الدينى ونشاط الصحوة وكان لهم دور فى حفظ التوازن الثقافى والفنى والاجتماعى فى مواجهة تيارات تدفع بقوة للهيمنة على عقل ووجدان وذائقة المصريين، وكانت شرائط كاست المغنيين والموسيقيين الشباب فى مواجهة شرائط مشايخ الوهابية التكفيريين، وده لعب دور مهم فى الحفاظ على ما تبقى من هوية المصريين وارتباطهم بالحياة والفن. 

وما يحدث الآن من لغط على الساحة الفنية الغنائية من رفض لبعض أنواع الموسيقى اللى أفرزتها التكنولوجيا، واللى بتعتبر ظاهرة مؤقتة وسرعان ما يسود الأصيل، ولكن كم التحفز والدفاعية المتبادلة بين الأجيال، تجعل الأمر يبدو كما لو أنه مواجهة بين فريقين يتبنى أحدهما دور الكهنة فى المعابد القديمة، ويتبنى الطرف الآخر دور المتمرد المتحمس.

المسألة أبسط من ده، ليس هناك خوف على المكون الفنى والثقافى الأصيل، لأن ذائقة المصريين بخير، ولاتزال تتمتع بحس أصيل، وربما علينا ألا نعيد تواريخ الرفض ومقاومة أى جديد، ونعتبره وافدًا سوف يقضى على الأصلى، وده اللى بيجعل المقاومة شرسة عندما يرتبط الأمر بإنتاج الشباب لفنون تعبر عنهم، وتمثل أجيالهم وليس مناطقهم، لأن من يتصلون بهذه الفنون هم من كل الطبقات.

طيب خلينا نعرف أن فى مصر- وطبقًا لتقديرات السكان عــام ٢٠٢٠ اللى قام بيها الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء- عــدد الشبــاب فى الفئة العمرية «١٨ إلى ٢٩ سنة» يبلغ ٢٠.٦ مليــون نسمة بنسبــة ٢١٪ من إجمالى السكان، وأن ٧١.٢٪ من الشباب دول بيستخدموا شبكة الإنترنت.

وطبعًا ده مؤشر لاطلاع الفئة العمرية دى على فنون أخرى مختلفة عما درجنا عليه، وبالتالى تنوعت الذائقة، وليس معنى ذلك أن فنوننا وموسيقانا فى مواجهة تهديد أو فناء، بالعكس يُعد ذلك رافدًا للإثراء وليس المحو لأن كل أصيل باقٍ.

أخيرًا الموسيقى لغة يعرفها العالم كله بشكل واحد فى كل زمان ومكان، ولذلك من الصعب أن نحدها فى إطار مناطقى أو محلى أو جهوى، هى لغة وتفكير لازم تكون له مساحة من التعبير عن نفسه بضوابط.

وزى ما قالت الكاتبة والناقدة الأمريكية «أورسولا لى جوين»: لم أشك للحظة فى أن الموسيقى والتفكير متشابهان، بل يمكن القول إن الموسيقى هى طريقة أخرى للتفكير، وربما التفكير ما هو إلا نوع آخر من الموسيقى.