رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

معسكرات عمل للبلطجية

الصورة التى نشرت لبلطجى الفيوم الأخير، رسالة لا تخطئها عين، كان البلطجى مُمدًا يلامس وجهه الأرض وقد أوثقت كلتا يديه، والمعنى أنه لا أحد يستطيع أن يثير ذعر المواطنين فى عهد الدولة القادرة.. لكن ملف البلطجة فى مصر لا يقتصر على هذه الحادثة، الظاهرة مزعجة، وقد ورثتها مصر منذ سنوات الفوضى التى بدأت فى ٢٠١١، كل ظاهرة لها جذور اجتماعية، لكن الظرف السياسى قد يؤدى إلى تراجعها أو إلى زيادتها، الظروف بعد يناير ٢٠١٢ أدت إلى تضاعف أعداد البلطجية إلى أرقام مقلقة، فى عام ٢٠١٢ كانت الداخلية تقول إن هناك ٢١٢ ألف مسجل خطر فى مصر، وكان الخبراء يقولون إن العدد يصل إلى نصف مليون وفق التغيرات التى حدثت، الآن للأسف الشديد، يصل عدد المسجلين خطر فى مصر إلى مليون و٢٤٤ ألفًا، أو مليون وربع المليون تقريبًا، وهو رقم جدير بالتوقف أمامه كثيرًا.

المسجل خطر هو المجرم المسجل فى سجلات وزارة الداخلية وفق جدول يقسم الخطرين إلى ثلاث فئات، تضم الأولى رؤساء العصابات ومعتادى إثارة الإرهاب ويحذف اسم الشخص من هذا الجدول إذا ظل تسع سنوات متواصلة بدون نشاط إجرامى، وتضم الفئة الثانية الذين سبق لهم ارتكاب جرائم القتل العمد ويحذف المسجل من الجدول إذا ظل ست سنوات بدون نشاط اجرامى، أما الفئة الثالثة فتضم ذوى النشاط الأقل خطورة مثل الاتجار فى المخدرات وغيرها ويحذف المسجل من الجدول إذا مرت ثلاث سنوات دون أن يمارس أى نشاط اجرامى.. نحن إزاء ظاهرة خطيرة بدأت فى السنوات السابقة على أحداث يناير، واستفحلت مع ضعف الدولة المصرية، وتفاقمت فى سنوات الفوضى، والنتيجة أن لدينا واحد ونصف فى المئة من تعداد الشعب مسجلون كمجرمين خطرين، وهو رقم مفزع لأنه ببساطة يفوق تعداد دول كاملة فى المنطقة العربية، صحيح أن الدولة الآن تضرب بيد من حديد، لكن الدولة ليست ساحرًا يقول للشىء كن فيكون.. هذا الرقم ليس كاشفًا عن حجم الظاهرة، لأن هناك من يمارسون البلطجة دون أن يكونوا مسجلين فى قوائم الداخلية، أو دون أن يمارسوا جرائم عنيفة توجب عقابهم وتسجيلهم.. أذكر أننى التقيت عام ٢٠١٢ بشاب جاء ليعمل فى وظيفة خدمية فى الصحيفة التى كنت أرأس تحريرها.. أحسست من مظهره أنه ليس من الشباب الذين يؤدون هذا النوع من الوظائف، وكان لا يخلو من نباهة وخفة ظل، طلبت منه أن يروى لى عن عمله قبل التقدم لهذه الوظيفة، أخبرنى أن له «شلة» فى أحد الأحياء الشعبية، وأنهم يتخذون من أحد المقاهى مقرًا لهم، ويعملون فى قضاء حوائج الناس مقابل أجر معلوم، فقد يلجأ لهم شخص تعرض لسرقة كى يعيدوا له المسروقات مقابل مبلغ مالى يُسمى «الحلاوة». وقد يستعين بهم شخص لاسترداد شقة سكنية من مستأجر.. او استرداد دين من شخص يماطل فى سداده.. كانوا باختصار «بلطجية» يؤدون وظائف الدولة الغائبة، ولا يتورطون فى عنف دموى يقودهم إلى العقاب الشديد.. منذ أيام هاتفنى هذا الشاب يسأل عن عمل فاعتذرت له، فهمت منه أن نشاطه فى «التخليص» مستمر، وأن هذا النوع من البلطجية يرتبطون مع بعضهم بشبكة تتبادل الخدمات، فإذا أردت خدمة فى الإسكندرية مثلًا فلا داعى لأن ينتقل البلطجية من القاهرة إلى الإسكندرية، لأن بلطجية الإسكندرية أدرى بشعابها، ويكفى اتصال تليفونى بالبلطجى المسئول عن الإسكندرية ليقوم بالواجب، والحساب مدفوع بالطبع.. من التفاصيل أيضًا أن هناك سواتر مهنية وقانونية لهذه التجمعات، مثل مكاتب تأجير العقارات وشركات الاستيراد والتصدير، وأن الظاهرة نمت فى العشر سنوات الأخيرة من حكم الرئيس مبارك، حيث تم التسامح مع ظاهرة البودى جارد والحراس الشخصيين، واستخدام القوة فى حسم بعض صراعات المصالح بين الكبار، لكن هذا كان نوعًا مختلفًا من البلطجة الأذكى، والأغلى سعرًا، وهى تختلف عن ظاهرة بلطجة الشوارع الخلفية أو المسجلين خطر، حيث العنف الجاهل والمنفلت المختلط بالفقر والمخدرات وقسوة الحياة عمومًا.. كان هذا هو الحال فى الماضى، وأؤكد أن الدولة ورثت هذا الوضع وتسعى للقضاء عليه، وأعلم أنه تم تشديد قانون العقوبات فى ٢٠١٩ لأقصى درجة فيما يخص البلطجة، ولكننى أقول إن هذا ليس كافيًا، كان قانون الطوارئ يكفل لوزير الداخلية إصدار قرار اعتقال لمن يهدد السلم العام لمدة ستة أشهر ثم تجديدها، والآن تم إلغاء القانون.. وأقول صادقًا إن الحل هو «معسكرات عمل» فى الصحراء، يوضع فيها المسجلون خطر مقابل رواتب يحصلون عليها، غير مسموح أن يكون فى كل حى وفى كل شارع قنبلة موقوتة اسمها مسجل خطر لا نعرف متى ستنفجر وتلحق الأذى بالناس، لابد من معسكرات للعمل والرعاية النفسية والسلوكية لهؤلاء، يعملون من الصباح للمساء فى زراعة الصحراء ويتعرضون لدورات علاج نفسى وسلوكى فى المساء، ولا يهمنى قانونية أو عدم قانونية ذلك لأن هدف القانون هو حماية أرواح الناس وممتلكاتهم فى النهاية والبداية.. أتمنى أن تلقى هذه الفكرة من يتحمس لها وينفذها لأنها تبدو لى الحل الوحيد لقنبلة موقوتة ورثتها الدولة.. وما أكثر القنابل الموقوتة!