رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هل تمثل الطاقة النووية حلًا آمنًا؟

 

فى ظل ما يجابهه العالم من إشكاليات وتحديات مناخية، جعلت اجتماع قادة دول العالم فى جلاسكو بأسكتلندا «كوب ٢٦» الحدث الأهم الآن، باعتباره يمثل «الأمل الأخير والأفضل» لحصار أزمة الاحتباس الحرارى، كما وصفها رئيس القمة «ألوك شارما». واللافت أيضًا أن جميع الخبراء أجمعوا على ضرورة القيام بخطوات ملموسة فى السنوات العشر المقبلة، حتى يكون هناك بصيص أمل للمساعدة فى الحد من الآثار المدمرة، فى حال تجاوز مستوى الاحترار ١.٥ درجة مئوية. وقد كان غريبًا أنه خلال فترة وباء «كوفيد- ١٩» الاستثنائية تواصلت أيضًا ظاهرة تغير المناخ، تمثل ذلك فيما أصاب الكوكب خلال العامين الماضيين وحدهما من فيضانات وأعاصير وحرائق غابات، ودرجات حرارة قياسية لم تشهدها الأرض على مدى تاريخها بأكمله!

الذى دفع الأمين العام للأمم المتحدة «أنطونيو جوتيريش» للحديث بلهجة حازمة وكلمات حاول أن تبدو قاسية أمام قمة «مجموعة العشرين»، التى تضم البرازيل والصين والهند وألمانيا والولايات المتحدة- أن القياسات الأممية أثبتت مؤخرًا أن نحو ٨٠٪ من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحرارى فى العالم، تنتجها تلك الدول أعضاء المجموعة. بالطبع عودة الولايات المتحدة، التى تمثل أكبر اقتصاد فى العالم حتى الآن، إلى محادثات الأمم المتحدة بشأن المناخ، سيحقق فائدة كبيرة للمؤتمر دون شك، بعد غياب أربع سنوات فى عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، لكن الخشية أن الصين على الجانب المقابل، التى تعد أكبر مصدر للتلوث فى العالم، خرجت ببعض من التعهدات وُصفت بأنها مازالت دون التوقعات ومثلها روسيا التى لم تصل إلى المستوى المأمول، فى وقت تتنامى فيه شكوك جادة إزاء التوجه نحو كارثة مناخية. لذلك أكد بوريس جونسون أمام الوفود التى تمثل ٢٠٠ دولة، أن القمة ستكون لحظة اختبار لـ«مصداقية العالم».

تعود المشكلة فى أصلها الظاهر إلى أن ارتفاع درجة حرارة الأرض، سببها انبعاثات الوقود الأحفورى الذى يستخدمه الإنسان فى مختلف مجالات حياته، مما تسبب فى ازدياد حدة الظواهر الجوية الخطرة المرتبطة بتغير المناخ. وعلى الرغم من ثلاثة عقود مضت من الحديث والتحذير بخطورة الأمر، أصبح الكوكب الآن أسخن بمقدار ١.١ درجة مئوية على الأقل منذ بداية الثورة الصناعية، هذه المرة ومع بدء استخدام لفظ «الكارثة» فى أدبيات وأوراق المؤتمر وما سبقه من فعاليات، ربما يضفى جانب من التوقعات بإحراز تقدم حقيقى أعلى من المعتاد، وأن يتجاوز الأمر هذه المرة ما فشلت فيه المؤتمرات الـ٢٥ السابقة، التى ظلت تعقد على هذا الشكل الموسع بهدف رئيسى يتعلق بإيقاف غازات الاحتباس الحرارى. واليوم المستهدف فى جلاسكو هو بحث آلية تجنب الوصول إلى درجات الحرارة الأكثر ضررًا، مما يعنى محاولة خفض انبعاثات الكربون العالمية إلى النصف بحلول عام ٢٠٣٠، وهو الموعد النهائى الذى يلوح فى الأفق أمام الدول بما يكفى لتركيز جهودها لتحقيق هذا الهدف.

الوكالة الدولية للطاقة الذرية دخلت هى الأخرى على خط تلك الأزمة، وذكرت فى بحث أخير لها أن الفحم قد أدى دورًا رئيسيًا فى تنمية العالم الحديث، لكنه أيضًا مثل السبب الرئيسى وراء تغير المناخ، حيث يتحمل حرق الفحم المسئولية عن أكثر من ٤٠٪ من انبعاثات الكربون العالمية، وأكثر من ٧٥٪ من الانبعاثات الناجمة عن محطات توليد الكهرباء، لذلك تدعو الوكالة إلى الإسراع بالانتقال إلى الطاقة النظيفة والابتعاد عن إنتاج الطاقة عبر المصادر التى تطلق الكثير من الغازات الدفيئة، وإن ظل هناك إدراك لدى خبراء الوكالة بوجود عديد من التحديات منها الاستخدام المترسخ للوقود الأحفورى، وما زالت هناك عوائق تكنولوجية وتمويلية كثيرة أمام زيادة حجم المصادر المنخفضة للكربون، المتمثلة فى مصادر الطاقة المتجددة من قبيل الطاقة المائية والطاقة الشمسية وطاقة الرياح، لذلك فهى تطرح البديل النووى كخيار آمن يجنب المناخ تصدعه تحت وطأة الانبعاثات الكربونية، التى ما زالت حاضرة، طالما هناك احتياج كثيف للمصادر التقليدية فى نشاطات رئيسية مثل صناعة الصلب والتدفئة.

خبراء الوكالة يرون أن الطاقة النووية قادرة على سد الفراغ الذى سوف ينتج عن إغلاق محطات التوليد بالفحم. فمحطات القوى النووية بوسعها أن توفر حملًا أساسيًا على مدار الساعة فى الأحوال الجوية كافة، لتكمل طاقة الرياح والطاقة الشمسية، اللتين يعتمد توليدهما للطاقة الكهربائية على حالة الطقس. وهى الميزة التى تحظى بها، حيث تسمح بالإنتاج فى أى وقت من الأوقات. كما يمكن للمحطة النووية أن تؤدى دورًا رئيسيًا فى تدفئة المساكن والمحال والمنشآت التجارية، وبقدرات تتجاوز إنتاج الكهرباء فى الحرارة المستخدمة فى المعالجة الصناعية وتحلية المياه وإنتاج الهيدروجين. وضربت الوكالة نموذجًا لذلك بمحطة «هايانج» الصينية للقوى النووية، حيث من المتوقع أن توفر هذه المحطة جميع احتياجات مدينة هايانج الساحلية التى تقع بمقاطعة «شاندونج» ويبلغ عدد سكانها قرابة ٦٧٠ ألف نسمة بحلول نهاية ٢٠٢١. وهى تذهب فى اتجاه آخر أيضًا لا يقل أهمية عن سابقه، فى محاولة لتقديم حلول علمية فى مجال المياه تعويضًا لمسألة التغير المناخى الحاد الذى تتعرض له الأرض.

حيث يعكف الآن فريق من العلماء من شتى أنحاء العالم، على تسخير التقنيات النووية للتعرف على أسرار المياه المختلفة، من خلال دراسة النظائر وهى متغيرات من العناصر الكيميائية تمكن العلماء أن يكشفوا أصل الماء وعمره ونوعيته واستخدامه، كى يقدموا حلولًا لكيفية حماية هذا المورد السائل والحفاظ عليه فى ظل تحديات المناخ. ففى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تعتمد بلدان كثيرة على موارد المياه الجوفية بسبب نقص المياه السطحية، خصوصا تلك التى لديها ندرة فى موارد المياه العذبة من الأنهار، وتعتمد بشكل رئيسى على المياه الجوفية كمصدر لمياه الشرب وأيضًا للرى، هناك بدائل حالية تتمثل فى إمكانية القيام بعمليات التحلية ورفع كفاءة المياه المتوافرة، باستخدام تقنيات نووية تدخل بشكل فعال واقتصادى إلى حد كبير فى المعالجة المطلوبة، مما يتيح للدول الواقعة تحت خط الفقر المائى أن تعوض النقص الحاد لديها بمنتج آمن، وله خاصية الإنتاج الاقتصادى، الذى سيظل التحدى الأكبر فى توافر السلعة الأهم، والأكثر احتياجًا لضمان العيش والاستقرار.