رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هى «اللحظة»

 

لحظة كاشفة فى حياة الواحد منا.. لحظة العثور على أول الطريق، قد ينعم الله بها وقد تنقضى الحياة من دون الوصول إليها.. بدت عزة فهمى قاب قوسين أو أدنى من هذه اللحظة الفارقة، عندما كانت فى معرض القاهرة للكتاب بعد أربع سنوات من تخرجها فى كلية الفنون قسم ديكور، «تخرجت عام ١٩٦٥»، مدت يدها وسحبت كتابًا ضخمًا باللغة الألمانية من فوق رف لا تعرف لغته، لكن صورة غلافه الضخم لحلق من الفضة على شكل حيوان جعلتها لا تتردد فى أن تدفع كامل مرتبها إلا جنيهين ونصف الجنيه.

تقول: «لمبة فى نافوخى نوّرت وقلبى بقى بيدق وقلت لروحى هو ده اللى أنا عاوزاه.. متهيألى إن دى من اللحظات اللى بيقولوا عليها (البصيرة)».

لعبت البصيرة دورًا فاعلًا فى مشوار عزة فهمى، ليس فقط عندما قادتها إلى العثور على مفتاح تحققها، بعد سنوات من التجريب، ما بين رسوم كتب الأطفال والفخار والديكور، بل سوف تلعب هذه «البصيرة» الشفافة دورها المؤنس فعلًا فى مشوارها.. لحظة أن مدت يدها لكتاب المصاغ الألمانى هى لحظة أقرب للعثور على «الذات»، ذاتها التى لم تكن تعرفها ولا أن تقوم بتعريفها بغير أنها كانت «متوسطة فى كل شىء»، فقط تؤدى ما عليها، تجتهد فى تنفيذ ما يوكل إليها. 

آثرت البدء بتلك اللحظة، التى هى بالفعل لحظة فاصلة لعزة فهمى سوف تتغير بعدها كل حياتها، لأن فيها جزءًا حقيقيًا من رسالة أوسع، أولًا: أن السعى بحثًا عن الذات ليس مرهونًا إلا بطول النفس، وبتوفيق الله طبعًا، ثانيًا: هذه اللحظة أشبه بـ«شهب» يلوح فى السماء، قد لا يطول بقاؤه، فإن أسعفتك بصيرتك وجدت نفسك وعثرت على مكامنها أو «الكنز».. وقد أجادت عزة فى كتابها، رسم العلاقة ما بين العثور على هذا الكتاب وما بين عطايا السماء، فلا شىء يجرى بالصدفة.

دفعت للكتاب سبعة عشر جنيهًا وتبقى من كامل مرتبها ٢٥٠ قرشًا، فى ظروف عيش ليس بها «براح» مادى إطلاقًا، ومع ذلك سوف تحب هذه الحياة بكل تفصيلاتها الإنسانية شديدة العذوبة. 

سوف تحب ضاحية حلوان وأم عزة وبيت عزة وسوف تتمنى وتتساءل: «ماذا لو أن ما كان لم يكن؟»، كما تساءل جمال الغيطانى، رحمه الله: فى عمق وبساطة.. قلب عزة قد استشرف ورأى، هذا باختصار ما جرى «جالى إحساس رهيب- تقول- طالع من قلبى وبيقولى هو ده الطريق».. عزة التى تصف نفسها أنها إنسانة تقليدية، (حلوانية) نسبة لضاحية حلوان، شديدة العقلانية، هى فيما يخص شغلها نقيض ذلك تمامًا.. هى الولع والجنون والخروج عن المألوف، وهى الصبر والمثابرة والتعلم المستمر الذى لم ينقطع حتى اليوم.

بعد أن عثرت عزة على بداية الطريق، وأدركت هى مين وفين وعاوزة إيه، قررت أن تتتلمذ على يد أحد أسطوات خان الخليلى، وأخذت الطريق له بعد نصيحة من صديقة، بادئة من «ربع الصرماتية» الموجود بشارع الصرماتية الموازى لشارع الصاغة حتى وصلت للإسطبل، رمضان القابع فى ورشة ثلاثة فى أربعة أمتار، بها شباك كبير يطل على شارع الساحة، يتوسط الورشة «تزجة» أو ترابيزة يجلس حولها الصنايعية الذين سوف تكون عزة واحدة منهم، تجلس فى مكان يسمح بالطلة على أجمل مجموعة مملوكية، مجموعة الناصر قلاوون، والتى سوف يرقد ويستكين حب عزة وولعها بها، فى وجدان الفتاة العشرينية وحتى اليوم.. أول درس من الأسطى رمضان وأول تصميم تنفذه عزة «صبية ورشة الأسطى رمضان» حاجة زى أول حب.. كانت تدفع للأسطى مقابلًا أسبوعيًا للدروس، وأول رأسمال لعزة أو أول كمية فضة اشترتها كانت بثلاثة جنيهات ونصف الجنيه عملت بها خمسة خواتم، تصف تصميمها بالبساطة والبدائية «مجرد هلال ونجمة»، ومع ذلك كان فيها شىء مختلف.. باعت الخواتم الخمسة لبوتيك فى الزمالك صاحبته كانت السيدة زينب سليم، زوجة الكابتن صالح سليم، وحصلت عزة على ثروة من بيعها: خمسة وأربعون جنيهًا، أى ما يوازى مرتب شهرين ونصف الشهر من العمل الحكومى، وكأى صاحب بيزنس ناجح أدخلت عزة الفلوس فى رأس المال واشترت بكل المكسب «فضة». 

«لعشرين عامًا ظل خان الخليلى ملعبى» كما تقول عزة، وسوف تستفيض فى الوصف الدقيق لرؤيتها للخان بشرًا وحجرًا، ولن تفوتها «غمضة عين» مرت بها، وهى الخاصية الجبارة لعزة، والتى إن اتحدت مع أرشيفها المنمنم عشنا معها فيلمًا وثائقيًا حيًا. 

كانت تنتقل من أسطى لأسطى فى لحظات من اختيارها، كانها تنتقل من سنة دراسية لأخرى، بحثًا عن تطوير الخبرات. من الأسطى رمضان إلى الأسطى سيد «ملك الخواتم الفرعونية» الذى تعرفت عليه عن طريق الفنانة سوزان المصرى، وعنده تعلمت كل مراحل الصنعة «نشر، لحام، برد، تشطيب، تلميع» وعرفت كل أدوات المهنة «زود، سنابك، دقماق، قصتج، السوك، الفلق.. إلى آخره».

بعد أربعين عامًا من الشغل بيديها، سوف تختفى بصمات يدها اليمنى من الصنفرة والأحماض، وسوف يكون لزامًا عليها فى كل مرة تحتاج فيها لأخذ البصمات، أن تأتى بشهادة من طبيب متخصص أن عدم وجود بصمات هو عيب خلقى. تقول «بقت الإيد الخشنة عندى تمثل قيمة مهمة فى حياتى، قيمة العمل فى حياة الإنسان». أحبت واحترمت العمال والصنايعية.

«إن الصنائع تكسب صاحبها عقلًا» كما يقول ابن خلدون، وسوف يقود العقل عزة هنا وقد صنعت لنفسها مسارًا للتعلم عبر ورش خان الخليلى والنحاسين والصاغة، وسوف نتعرف على شيوخ المهن المتباينة ونلج الوكالات ونشم تراب الذهب ونجوب مصر عبر حليها من سيوة للصعيد وبحرى. 

كل جزء كنت أتوقف عنده وأقول: نفسى الناس تعرف ده، أو تشوف ده، ليس لأننى أمام تجربة إنسانية نجحت صاحبتها فى نقلها بدرجة عالية من الدقة، لكن لأن الخلفية الحاضرة بأقوى درجة هى مصر بناسها وأحوالها، اقتصادها واجتماعها، وهذا ما يضمن أن هذا الكتاب، «مذكرات عزة فهمى»، لم يكن مجرد زائر عابر لأى مكتبة أو قارئ.