رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

موجة تضخم عالمية.. ماذا يحدث ببساطة؟

 

عقود الفحم عند أعلى مستوياتها على الإطلاق، النفط يُحلّق فوق ٨٤ دولارًا للبرميل ويصل لأعلى مستوى من ٢٠١٨، والغاز الطبيعى يرتفع بـ٥٠٠٪ مقارنة بأول العام، طوابير فى المملكة المتحدة وبعض المقاطعات الصينية تطالب المواطنين بتقليل استخدام الأجهزة الكهربائية وشحن الهواتف والاعتماد على ضوء الشمس كلما أمكن، والبيت الأبيض يصدر بيانًا عن أنه يتابع «عن كثب» أسعار النفط.. ماذا يحدث؟

ببساطة، أزمة الجائحة فى بدايتها، وكعادة أى أزمة تتسبب فى حالة هلع وارتباك إلى أن تتدخل الحكومات لإيجاد الحل، وبالفعل تدخلت الحكومات والبنوك المركزية الرئيسية حول العالم «البنوك المركزية فى كل من أمريكا واليورو وبريطانيا واليابان والصين» وضخت أكثر من ٩ تريليونات دولار منذ بداية الجائحة لمساعدة الشركات والأسر المتضررة من الجائحة، هذه كانت المرحلة الأولى من الحل، وكانت فى الفترة الأولى للجائحة بين أبريل وسبتمبر ٢٠٢٠.

المرحلة الثانية للحل كانت بإيجاد شركات الأدوية، بالتعاون مع الحكومات الكبرى، لقاحًا مضادًا للوباء، والإنتاج التجارى واسع النطاق للقاحات بدأ فى أواخر ٢٠٢٠، وهنا بدأ الاطمئنان يسرى حول العالم، وبدأ الناس يعودون تدريجيًا لحياتهم الطبيعية، لكن فى المرحلة الأولى للجائحة أثناء الخوف والهلع الذى ساد الأسواق العالمية كانت هناك اتجاهات قوية لتقليل الإنفاق تحسبًا من سيناريوهات المستقبل التى كانت فى ذلك الوقت قاتمة.

تقليل الأفراد إنفاقهم يعنى أن الطلب قد انخفض على كل السلع والخدمات، وعلى رأسها النقل والسفر، سواء بريًا أو بحريًا أو جويًا، وكذلك قطاعات الفندقة والضيافة والمقاهى والمطاعم والأغذية، حتى الموانئ والمصانع تأثرت سلبًا بتخفيض الأفراد إنفاقهم، بالتالى حدث انهيار فى أسعار الطاقة، سواء الوقود أو الفحم أو الغاز، لأن الحاجة إليها قد تراجعت كثيرًا فرأينا النفط عند ٢٠ و٣٠ دولارًا للبرميل وفى بعض أوقات العام انخفض تحت الصفر ولم يجد من يشتريه، بالتالى خفضت الشركات من المعروض والإنتاج.

مع انقشاع الغمة وظهور اللقاح ودعم الحكومات شركاتها ومواطنيها، زال الخوف وحل محله الاطمئنان، وهذا يعنى عودة مرة أخرى للطلب على السلع والخدمات.. ارتفاع الطلب ليصل إلى مستوياته الطبيعية لم يقابله ارتفاع مماثل فى العرض أو الإنتاج، لأن العرض دائمًا ما يكون بطيئًا، تخيل الأمر على مستواك الشخصى، فى السوق الذى تشترى منه احتياجاتك لن يقوم أى تاجر باستيراد أو تصنيع سلعة معينة إلا إن وجد عليها طلبًا كبيرًا ولفترة طويلة، وقتها يشعر بالاطمئنان ويبدأ فى توفيرها.

إذن بعد الوصول للقاح ورفع القيود التى فُرضت فى أول الجائحة، أصبح هناك طلب على كل السلع والخدمات ضخم جدًا وأكبر بكثير من العرض أو القدرة القصوى للإنتاج التى سبق وتم تخفيضها منذ بداية الجائحة، وهذا الطلب كان مفاجئًا وكبيرًا وسريعًا، المدارس عادت والشركات فتحت أبوابها والمطارات تستقبل السائحين والشوارع الخالية عادة مزدحمة مرة أخرى، حركة الإنتاج عادت لطبيعتها وتحتاج إلى سلع وخدمات كثيرة مثلما كان الوضع قبل الجائحة، هذا دفع إلى ارتفاع أسعار كل السلع وعلى رأسها الوقود، وهذا سبب رئيسى فى رفع سعر اللتر بمصر مرتين على التوالى فى آخر اجتماعات لجنة التسعير الحكومية.

بمناسبة حديثنا عن الوقود، هل تذكر منظمة «أوبك»، المنظمة الدولية التى تضم أكبر الدول المصدرة للنفط؟، هذه المنظمة قررت أكثر من مرة منذ بداية الجائحة تخفيض إنتاجها، ثم قررت زيادتها بشكل متدرج لكن بطىء، ومع انخفاض مخزونات الدول من النفط يزيد الخوف، ومع بداية موسم تعاقدات الشتاء يزيد الطلب على الطاقة خاصة فى البلاد الباردة، مثل أمريكا وكندا وشمال أوروبا، هذا يعنى مزيدًا من القلق، ومع ارتفاع الطلب ليتجاوز العرض بمسافة شاسعة، بالتالى ارتفع سعر البرميل من مستويات ٣٠ دولارًا التى سجلها قبل عام إلى ٨٤ دولارًا حتى العاشر من أكتوبر الجارى، أى زيادة بأكثر من ١٠٠٪.

عدوى ارتفاعات الأسعار انتقلت للغذاء.. الغذاء لن ينتقل بمفرده ولن يطير فى الهواء بل يحتاج إلى وقود لكى يُنقل عبر السفن أو الطائرات أو المقطورات، لذلك صرحت منظمة الأغذية العالمية فى تقريرها الشهرى لأسعار الغذاء العالمية بأن المؤشر فى سبتمبر الماضى سجل ١٣٠ نقطة، وهذا يعنى أنه قد ارتفع بمقدار ٣٢٪ على أساس سنوى «سبتمبر ٢٠٢١ مقابل نفس الشهر فى ٢٠٢٠»، وهذا أيضًا يعنى وصوله إلى ذروة ١٠ أعوام، مدفوعًا بزيادات حدثت فى قسم الحبوب والخضروات بالأخص، ولا تتوقع أن يتوازن الإنتاج مع الاحتياجات قريبًا.

مصر استعدت جيدًا للتحوط من هذه الأزمة والتجهيز للحظة مماثلة، استثمرنا نحو ٣٠ مليار جنيه فى رفع قدراتنا على التخزين والصوامع، ودون تخزين واسع النطاق وعالى الجودة لن تكون هناك قدرة على الصمود لفترة طويلة، كان لدينا هدر بمقدار ٢ مليار جنيه سنويًا بسبب التخزين الردىء.. أيضًا استثمرنا فى مشروعات الـ٢٥٠ ألف صوبة زراعية ومشروع مستقبل مصر، وهو ما ضاعف ورفع من إنتاجنا المحلى من المحاصيل الأساسية.

ارتفاع الإنتاج من الحاصلات الزراعية ومن موارد الطاقة الهيدروكربونية قاد إلى تحقيق الإكتفاء الذاتى من كل المحاصيل الزراعية الرئيسية، وكذلك الغاز والكهرباء، عدا القمح والزيوت والزيت الخام.. مصر لا تملك احتياطى نفط كبيرًا مثل الدول المجاورة، فمثلًا نملك ٣.٥ مليار برميل نفط احتياطيًا مقابل ٢٧٠ مليار برميل لدى السعودية الشقيقة، و٤٨ مليار برميل لدى ليبيا الشقيقة، ومع فارق عدد السكان بين البلدان الثلاثة تستطيع أن تفهم سبب عجزنا عن تحقيق الاكتفاء من هذا المورد.

لكن أدعوك إلى التفكير فى سيناريو تخيلى: ماذا لو لم؟!.. ماذا لو لم تنفق الدولة كل هذه المليارات والجهد فى هذه المشروعات ثم دخلنا إلى الأزمة العالمية الحالية عارين تمامًا من أى سلاح أو درع؟!! لولا خطط الدولة الممتدة من ٢٠١٤ إلى الآن لرفع قدراتنا الزراعية وقدراتنا الطاقاوية فى الغاز وتوليد الطاقة الكهربية وغيرها من الإجراءات المتنوعة والكبيرة لكنا منكشفين تمامًا دون أى درع تحمينا أو تخفف الأثر علينا من صدمة التضخم التى تضرب كل دول العالم.

هل نستطيع الصمود بوجه هذه الأزمة؟.. نستطيع بالتأكيد، لكن ليست كل الأوراق تحت سيطرتنا، مثلًا سعر النفط والقمح والزيوت والنقل كلها ليست تحت سيطرتنا، هناك أشياء خارج قدرة أى دولة حتى لو كانت الولايات المتحدة أقوى اقتصاد بالعالم، مثلًا البيت الأبيض يُجرى محادثات مع كبار منتجى النفط والغاز لضخ مزيد من الإنتاج لموازنة العرض مع الطلب وكبح زيادات الأسعار، نحن فى مصر، ووفقًا لإحصاءات وزارتى التموين والبترول، لدينا مخزون يكفى لاحتياجاتنا لشهور طويلة.

وهنا على الإعلام مسئولية كبيرة فى حُسن إدارة توقعات الناس/ المستهلكين، لأن الهلع غير مُبرر والارتباك غير مطلوب، وتوجد حالات عديدة فى كتب الاقتصاد تدلل على أن فقدان السيطرة على توقعات الناس والنظرة التشاؤمية تكون كفيلة وحدها برفع الأسعار، دون وجود أى أسباب فى أساسيات الاقتصاد تبرر هذه الارتفاعات.

القلق الحقيقى أكبر من ذلك، الاقتصاد العالمى يمر بظروف عصيبة للغاية، هناك توترات عنيفة وتهديدات متبادلة فى بحر الصين الجنوبى بين «بكين» و«واشنطن»، وتايوان وهونج كونج يتم عصرهما فى المنتصف بين الكبار.. الحرب التجارية الأمريكية الصينية تصاعدت وتضاعفت وأصبحت أكثر قتامة، أزمة الرقائق العالمية، «تايوان حليفة واشنطن لديها أكبر شركة منتجة للرقائق وهى TSMC»، لا تزال حاضرة وتعطل كثيرًا من المصانع.

الديون العالمية تلامس حاجز الـ٣٠٠ تريليون دولار لأول مرة، والعالم لم يتعظ من أزمة ٢٠٠٨/٢٠٠٩ بدليل مشكلة «إيفرجراند» العقارية الصينية التى تخلّفت عن الوفاء بالتزاماتها للبنوك، وتجر معها ثانى أكبر اقتصاد بالعالم تجاه احتمالات أزمة مالية عنيفة، والفيدرالى الأمريكى لا يزال يتسم بالتردد والارتباك فيما يخص سعر الفائدة فى ظل ارتفاعات مستمرة بالتضخم داخل أمريكا، وحول العالم كان يظنها قبل شهور- أى الفيدرالى- أنها مؤقتة، واتضح أنها سوف تمتد لفترة طويلة.

كل هذه الأزمات قد نعتبرها أزمات عادية ممكن التعامل معها والسيطرة عليها لو كانت كل واحدة منها على حدة، لكن المقلق فى الأمر أن هذه الأزمات كلها متزامنة مع بعضها البعض فى نفس توقيت الجائحة ومحاولة التعافى مع مستويات تضخم غير مسبوقة، وبالتالى ليس علينا سوى مزيد من التحوط ومزيد من الاستثمارات لتلبية الاحتياجات المحلية، وتقليل الاعتماد على الواردات الغذائية قدر الإمكان، وعلى الأجل الطويل ربما علينا التفكير فى حل لمشكلة استيراد القمح والزيت الخام «النفط» والزيوت النباتية «التى تدخل فى الغذاء»، وكيفية تعويضها بإنتاج محلى يغطى الطلب عليها؛ لتحقيق الاكتفاء الذاتى من الغذاء ومدخلاته وعناصر إنتاجه، وهو الذى يُعد أمنًا قوميًا لكل المصريين.

محلل اقتصادى فى شركة أرقام المالية