رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فيروز المصرية.. كيف عاشت نهاد حداد أغرب أيامها فى القاهرة؟

نهاد حداد
نهاد حداد

تملّ فيروز من شقة قصر العينى، وتطلب شقة أخرى فى الزمالك، تقول إن لها غرضًا ستكشفه الأيام. 

تسهر، يوميًا، فى حديقة كازينو الجلاء «بديعة مصابنى الصيفى سابقًا، شيراتون القاهرة حاليًا»، خلال أولى زياراتها للقاهرة عام ١٩٥٥، يطوف ملحنو وشعراء مصر بها وتستقبل عروض صناعة أغان جديدة، وتقرأ صحف الصباح الساخنة بتصريحات عبدالناصر قبل العدوان الثلاثى. يردّ عاصى رحبانى على عروض الأغانى: معلش، الصبية مشغولة بتسجيل ٤٨ أغنية لـ«صوت العرب». يحكى الكاتب اللبنانى، جورج ضرغام، أن ملحنين ومؤلفين كثيرين طمعوا فى مقابلة فيروز حتى تكتب لهم شهادة ميلاد فنية بصوتها، لكن عاصى حاصرها حتى لا تبيض ذهبًا لغيره، ولا تقع فى غرام فلاشات الكاميرات، والنجومية فى مصر.

مؤامرة فى الإذاعة ضد «السيّدة».. وشكاوى من احتكار عاصى

يذهب الملحن محمود الشريف إلى كازينو الجلاء، ويعرض على عاصى لحن أغنية جديدة مصنوعة على مقاس صوت فيروز. 

ينال الرد الجاهز ودعوة إلى فنجان قهوة- «كان لآل رحبانى حساب مفتوح بالكازينو على نفقة (صوت العرب) وفقًا للتعاقد»- ويكتب فى اليوم التالى مقالًا عن احتكار صوت فيروز، يهاجم الأخويْن، ويقول: 

«أحبّ أن أستمع إلى صوت فيروز فى ألحان أخرى غير تلك الألحان التى يضعها الأخوان رحبانى لأنها تخضع للصَنْعة فقط، وتخلو من الإحساس». 

لن تغنى فيروز لمصر! 

كانت تعرف ذلك بسبب المؤامرات «الخفية» داخل الإذاعة المصرية من جانب مطربين كانوا يرون ما يُقدّم لها غزوًا لبنانيًا «من جيوبهم»، فطلبت شقة ترى النيل بالزمالك بحجة أنها ستغنِّى للنيل والمراكب والأشرعة، وتريد أن تتابعها باستمرار لتدخل فى الحالة، وتغنى بمزاج.

اعتبر أحمد سعيد، مدير صوت العرب، حُجَّة فيروز كلامًا فارغًا غرضه الانتقال إلى جزيرة الزمالك الراقية، لكنه نفَّذ طلبها، واستأجر شقة جديدة، فوافق عاصى على أغنية من كلمات مرسى جميل عزيز، لكنه أصرَّ على حقه الأبدى فى وضع اللحن، ليقف فى طريق ابتلاع أنوار مصر المبهرة لفيروز، كما ابتلعت صباح ونورالهدى ووردة، وانتهت المناورات والاعتراضات بمرور الوقت دون تسجيل الـ٤٨ أغنية المصرية لفيروز.

سنَّ عاصى وفيروز السُنَّة، وعرفت القاهرة بعدها حكايات أخرى عن الاحتكار بعد الزواج.. وبدأت محاولات اختطاف فيروز فى مصر تدور فى الخفاء.. لكن عام ١٩٦٦ سيفتح كهف الأسرار. 

اعتذار بـ«السيارات الرسمية».. ورجاء النقاش وراء الدعوة

١٤ أكتوبر ١٩٦٦..

وصلت رأس التين سيارات سوداء تحمل نِمَرًا رسميّة، ودخلت الميناء.. 

كان ذلك يعنى للحرَّاس أن شخصًا مهمًا أو شُحْنة أسلحة أو صفقة سريّة فى الطريق. 

رَسَت الباخرة القادمة من بيروت على الرصيف الذى ركنت به السيارات السوداء، نزلت فيروز وهدى «شقيقتها» وعاصى ومنصور فتجمَّع العمَّال وصفَّقوا للسيِّدة، واستقبلها مندوبون عن الرئيس، ووزير الإرشاد القومى، وعرضوا برنامج الرحلة: 

زيارة مصانع الحديد والصلب فى حلوان، ومدينة الفنون بالهرم، وجولات بمعاهد الباليه والسينما والتمثيل والكونسرفتوار ومدينة السينما، مشاهدة عرض فرقة رضا للفنون الشعبية فى مسرح البالون، مشاهدة أوبريت هدية العمر للموسيقار محمد الموجى على مسرح دار الأوبرا الخديوية بعد مدّه أسبوعًا كى تلحق به، مشاهدة عرض الصوت والضوء عند أهرامات الجيزة وفى قلعة صلاح الدين، وزيارة استديوهات السينما فى القاهرة، ومشاهدة عروض المسارح المختلفة والمسرح القومى ومسرح الحكيم والمسرح الكوميدى والمسرح العالمى، وزيارة بعض شعراء مصر ومنهم صلاح عبدالصبور وصلاح جاهين. 

كانت الزيارة بدعوة من وزارة الإرشاد القومى «الإعلام» كى تصلّح خطأ «شخص بارز» حاول مضايقة فيروز، ولم يكن يعرف قدر بساطتها حتى إن أكثر شىء مثير فى حياتها كان عرض فرقة «رضا»، أعجبها، وقضت الطريق إلى الفندق فى الضحك، وممازحة هدى بأغنية «يا حلاوة ع الكرنبة، يا حلاوة ع الكرنبة، ودى مشية الكرنبة بنت العمدة يا حلاوة ع الكرنبة».

تقول مجلة «المصوّر»، قبل الزيارة بيومين «١٢ أكتوبر»، إنها لعبت دورًا كبيرًا فى حضور فيروز بسبب «الإحساس الكامن لديها ولدى الكثيرين من أن مصر لا ترحب بفيروز أو أن هناك قرارًا بمنع أغانيها من مصر أو أى شىء من هذا القبيل». 

لا تنفى المجلة أو تؤكد أن أغنياتها كانت لا تذاع فى مصر، ويحكى رجاء النقاش فى مقال بـ«الأهرام- ٢١ أكتوبر» عن دهشته من عدم إذاعة أغانيها فى الراديو المصرى بعد انفصال سوريا عن القاهرة، والقلق من بَيْع أسطواناتها فى الشارع، أو نشر أخبارها فى الصحف، وشكوى «رحبانية» من وجود موقف لدى الرئيس جمال عبدالناصر، وكيف أنه قام بـ«دورٍ ما» فى دعوة فيروز إلى القاهرة.

وسرت تساؤلات عن سر مقاطعة فيروز فى القاهرة.

كان النقاش مشتعلًا فى بيتها بأنطلياس، وانتهت إلى أنهم «عُرِفوا فى دمشق وغنوا لأول مرة فى دمشق، حيث لم يكن فى بيروت إذاعة، وفى سبتمبر من كل سنة يُفتَتَح معرض دمشق الدولى بليلة تغنيها فيروز عشرات السنين، وفى أول سبتمبر، بعد الانفصال، قامت فيروز بعملها الروتينى وغنت فى افتتاح معرض دمشق وأسرعت جهات إلى قطع دابر فيروز من كل موجة إذاعية أو جريدة مصرية وأخلت الدكاكين من أسطواناتها». 

عاد النقّاش إلى القاهرة، وذهب يبارك لأمين هويدى على توليه وزارة الإرشاد القومى: «قلتُ له هذه القصة محتجًا، وقلت له إننى لا أتصور أن جمال عبدالناصر يفعل ذلك، وإذا حدثت فإنه مخطئ، فهذا فن عربى وليس موقفًا سياسيًا، وأمل فيروز الأكبر هى والرحابنة أن يقدموا أوبرا مصرية فى القاهرة ولكنهم يريدون دعوة للحضور».

ولم تكن الجهات سوى شخص واحد فشل فى لقاء فيروز فتحوّل غضبه إلى شائعات عن منعها من الدخول بسبب قربها من سوريا والنظام السياسى السورى «الذى لم يكن على وفاق مع مصر بعد نهاية الوحدة العربية»، والتقت الشائعات مع غيرة مطربين مصريين من الاحتفاء بها، وملحنين وشعراء من عاصى ومنصور، وذكريات العاملين بـ«صوت القاهرة» الباقية منذ ١١ عامًا، فأغلقت الدائرة بإحكام.. وأصبحت فيروز فى مصر «تُنسى وكأنها لم تكن».

تقارير كيدية بوقوفها ضد «مشروع ناصر العروبى».. وفشل محاولات اختراع «نسخة مصرية»

ستنهى القاهرة أسطورة فيروز، لو استسلمت إلى أضواء مصر المبهرة، ستخسر الشىء الذى يميّزها وهو اعتبارها «روح لبنان المخلصة»، فكل ما يعرفه المصريون عن لبنان كان أغنيات فيروز.

حين زار وفد لبنانى «رفيع المستوى» الإسكندرية «١٩٧٦»، قابل كمال جنبلاط، رئيس الحركة الوطنية، ومحسن دلول، وزير الدفاع الأسبق، الرئيس أنور السادات فى استراحته بالمنتزه، عرضا مشكلة الحرب الأهلية، وطلبا منه أن يتدخل ويقود مفاوضات مع الأحزاب وحافظ الأسد كى ينهى تمويل وتسليح بعض الكتائب التى تقتل أهل لبنان، فهمس له الصحفى موسى صبرى ساخرًا: نحن لا نعرف أى كتائب، ولا نعرف أحدًا فى لبنان غير فيروز. 

ألحّ عبدالناصر فى اختراع «فيروز مصرية» خوفًا على تفوّق مصر الفنى، الذى يمكن أن يزول ويذهب إلى لبنان إذا رحلت أم كلثوم. 

تفشل محاولات جذبها إلى مصر بالفن والسياسة، ويمتلئ المقرَّبون من عبدالناصر بالغضب، فيعتبرونها جزءًا من مشروعات قومية عربية أخرى منافسة للمشروع المصرى، ويبدأ إعداد تقارير كيدية ضد فيروز، تقول إنها بجنسيتها اللبنانية وديانتها المسيحية تقف ضد مشروع «ناصر» القومى فى العالم العربى لحساب مشروع آخر ينقل مركز الوطن العربى إلى سوريا أو لبنان.

تعوم تلك التقارير والشائعات على بحر من الشائعات والمكائد، يكشفه رجاء النقاش فى مقابلة مع محمد فائق، مستشار عبدالناصر. 

يوضح فائق الحقيقة للزعيم، ويرسل أمين هويدى، وزير الإرشاد القومى «الإعلام»، دعوة إلى فيروز لإحياء حفل فى مصر.

يستقبلها «النقاش» بصورة على غلاف مجلة الكواكب، التى كان يرأس تحريرها، تحت عنوان «أهلًا فيروز»، فتردّ الجميل بحضور ندوة فى دار الهلال. ورغم الاستقبال الرسمى والترحيب، ظلت القاهرة- بالنسبة إلى فيروز- ذكرى ثقيلة، فالصحف والمجلات تتعامل معها دائمًا باعتبارها «باحثة عن الفلوس».

أما لماذا هاجمتها صحف مصر، فهذه قصة تستحق أن تُروى. 

لماذا هاجمتها صحف القاهرة عدة مرات؟

فى عام ١٩٧٦، تقول الصحف إن المفاوضات مع فيروز استمرَّت ٣ سنوات كى توافق وتغنى فى مصر.

قدَّمت عرضًا «من إخراج السيد راضى» بحديقة الأندلس.. بعض الشاشات بثّت جلسات القمة العربية، لكن أغلب القنوات أذاعت حفل فيروز. 

تجرى القمة فى ميدان التحرير، وينصّ برنامج اليوم على أن تنتهى الجلسة مبكرًا، ويذهب الرؤساء والملوك العرب إلى الحفل. 

تجهز فيروز أغنيتى «مصر عادت شمسك الذهب»، و«بحبك يا لبنان»، لتقديمهما أمام الحكَّام. 

تتأخَّر الجلسة حتى الحادية عشرة مساءً بسبب خطبة جنونية لأحد الزعماء فلا تنال الفرصة. 

يدعوها يوسف السباعى إلى حفل تكريم باسم جمعية كتّاب ونقَّاد السينما، تتجاهل صحف مصر التكريم، ورغبة الملوك والرؤساء فى حضور حفل فيروز، وما إن تغادر فيروز القاهرة حتى توجَّه لها الرصاص بسبب متعهِّد حفلاتها. 

تهرب من الضرائب فهاجمت الصحف فيروز، وتركته.

فى عام ١٩٨٦، تقبل فيروز عرض متعهد حفلات سعودى فى مصر، وتوافق على إقامة حفل فى القاهرة، لكنه كان أسوأ من المصرى. 

تهرّب من الضرائب، وباع تذاكر أكثر من عدد كراسى المسرح، لم يوفر ميكروفونات للفرقة فتبرّع محمد نوح بأجهزة لإنقاذ الموقف، وعندما بدأت فيروز تغنى اكتشفت عطلًا فى الميكروفون، فحرَّر الجمهور محاضر ضد المتعهد فى أقسام الشرطة، لكن صحف مصر مارست عادتها القديمة، وهاجمتها.

إحباط سرقة تراث سيد درويش.. وتفاصيل المشروع القومى «الممنوع» 

الزيارة الثانية قدَّمت ثلاثة ألحان جديدة لفيروز: «الحلوة دى»، و«زورونى كل سنة مرة»، و«طلعت يا محلا نورها» (ألحان سيد درويش). 

وكانت هناك رغبة لتقديم المزيد من أغنيات درويش بصوت فيروز.. ونشر محمد على حمَّاد، رئيس جمعية أصدقاء موسيقى سيد درويش، سر فشل «إعادة التجربة» مرة أخرى. قال، فى صحيفة «الأخبار» (أكتوبر ١٩٧٦)، إن وزارة الثقافة بدأت محاولة لجمع وتسجيل تراث سيد درويش، وكلف الدكتور ثروت عكاشة الفنان سعد أردش بالمهمة، واقترح إطلاق المبادرة بحفل لمطربة كبيرة «مع فرقة خاصة من مطربين وعازفين وراقصين ومنشدين تطوف البلاد الشقيقة لتقديم الاستعراض».

واقترح أن تكون المطربة.. فيروز. 

ومن الطبيعى، أن يوزّع الألحان الأخوان رحبانى.

اشترط الأخوان رحبانى الحصول على ألف جنيه لهم ولفيروز عن كل حفلة من حفلات الاستعراض، و٢٠ ألف جنيه مقابل التوزيع الموسيقى لألحان سيد درويش، وحق بيع تسجيل الاستعراض لإذاعات وتليفزيونات العالم العربى. عرف عكاشة ضاحكًا، وأمر بغلق الملف نهائيًا: «الأخوان رحبانى يطلبان سرقة تراث سيد درويش وعشرين ألف جنيه كمان فوق البيعة.. يفتح الله».