رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بطل ملحمة «كبريت»

فى مديح الشهيد إبراهيم عبد التواب

مهما كتبنا وقرأنا عن حرب أكتوبر، يظل ما جرى بتفصيلاته فوق أى كتابة، ببساطة لأن ليس من قرأ كمن عاش، مارس الرجال البطولة كأنها جزء طبيعى من الحياة.. «التجلى» الصادق لمعانى العطاء بغير شروط، وإنكار الذات والإيثار، لا تجد له ما يرادفه قدر ما كان، من موقع المعايش يكتب جمال الغيطانى عن الشهيد إبراهيم عبدالتواب، بطل موقعة «كبريت».

ليلة ٢٣ أكتوبر ١٩٧٣ استشهد المقدم محمد أمين على مقلد، ومنذ هذه اللحظة تولى العقيد أركان حرب إبراهيم عبدالتواب قيادة موقع كبريت، فى نفس الوقت كان الحصار الطويل يبدأ، قطعت الاتصالات اللا سلكية ودمر جزء كبير من معدات الإشارة نتيجة القصف الشديد يوم ٢٣ أكتوبر فى نفس اليوم استشهد الرائد نور المسئول عن مواصلات الموقع السلكية واللا سلكية.

يوم ٢٤ أكتوبر استأنف العدو غاراته الجوية وقصف المدفعية، فى نفس الوقت كان الرجال يتصدون للعدو ويردون هجماته، كان إبراهيم عبدالتواب يستغل كل ثانية لتدعيم دفاعات الموقع من حفر خنادق، تنظيم دفاعات، وتوزيع الرجال وتقسيمهم فى مجموعات.

فى الصباح الباكر من يوم ٢٥ أكتوبر دفع بدورية مسلحة سارت بحذاء الطريق الساحلى للبحيرات المرة، وذلك بهدف تحقيق اتصال بقيادة الجيش الثالث، وبعد مسيرة ٧ كيلومترات تم تحقيق الاتصال وتحديد المطالب من المهمات والتعيينات.

ومنذ هذه اللحظة بدأ دفع عدة دوريات من رجال موقع كبريت عبر هذا الطريق، كانت الدوريات تحمل نقالات فوقها الجرحى لإخلائهم إلى الجيش الثالث، وفى العودة كانت النقالات تُحمَّل بالأدوية وجرادل المياه، وحتى ٣ نوفمبر ١٩٧٣ أمكن قيام ست دوريات بمهمتها، فى ذلك اليوم اكتشف العدو هذا الطريق النحيل الذى يربط موقع كبريت بمواقع الجيش الثالث، تحركت قوات معادية للتمركز فى هذا الطريق، وبذلك أصبح الرجال محاصرين من جميع الجهات، فيما عدا ظهر الموقع المحدود بميناء البحيرات المرة.

كان إبراهيم عبدالتواب يقول: «إذا ضربوا طلقة نرد عليهم بعشرة»، وكان لا يسمح بأى تحرك فى مواجهة الأرض التى يسيطر عليها «الموقع»، أى عربة مدرعة إسرائيلية أو دبابة أو جندى، أى حركة من جانب العدو كانت تقابل بإطلاق النار الفورى من الموقع، كانت الاشتباكات لا تهدأ، اشتباكات يومية بالأسلحة الصغيرة والمدفعية الثقيلة، اشتباكات على مستوى واسع، خاصة عند حدوث عمليات إمداد الموقع، كان إبراهيم عبدالتواب يدفع بكمائن مسلحة إلى المياه لحماية قوارب التعيين الآتية من الجيش الثالث، ينزل الرجال إلى مياه البحيرات المرة فى أقسى أيام الشتاء، ينتظرون بالساعات مجىء القوارب، وفى نفس الوقت كانت مدفعية الجيش الثالث تتأهب كلها للاشتباك مع العدو فى حالة اكتشافه قوارب الإمدادات فى القناة.

كان إبراهيم عبدالتواب يستخدم الأسلحة والقذائف الإسرائيلية التى كانت موجودة فى النقطة القوية، ويضرب بها مواقع العدو المحيطة، وأدى هذا إلى استفزاز العدو وإحداث شرخ فى روحه المعنوية، كانت إسرائيل تريد اقتحام الموقع، ولكنها عجزت عسكريًا أمام إصرار الرجال بقيادة إبراهيم عبدالتواب.. رغم الظروف القاسية عرضت إسرائيل إخلاء الموقع دون أسلحة، ورفض إبراهيم عبدالتواب ورفضت قيادة القوات المصرية، عرضت إسرائيل أن يسلم الموقع مع خروج جميع أفراده بكامل أسلحتهم وتسهيل انتقالهم إلى الجيش الثالث، رفض إبراهيم عبدالتواب ورفضت قيادة القوات المصرية.

كانت شخصية إبراهيم عبدالتواب ممسكة بكل أطراف الحياة فى الموقع، تؤثر فى الجميع بصلابتها وتواضعها وصمودها، كانت المسألة بالنسبة له تعنى أن شرف مصر يتعلق بهذه البقعة من الأرض التى ترفع العلم المصرى فى قلب محيط من قوات العدو، كان يهتم بأدق التفاصيل على امتداد الحياة اليومية للموقع.

فى الحصار الطويل كان اليوم يبدأ فى تمام الساعة السادسة صباحًا، يقوم بعض الجنود بالاستعدادات الخاصة بتقطير المياه، ومن الساعة الثامنة حتى التاسعة يتم تجهيز وجبة الإفطار، ثم يبدأ إبراهيم المرور على كل مقاتل فى الموقع، كان الجنود إذ يستيقظون يرونه فى كامل ثيابه متواجدًا فى كل شبر من الموقع، وإذ ينامون كان آخر من تقع عليه عيونهم «إبراهيم عبدالتواب».

على امتداد اليوم يجلس إليهم يحادثهم، يصغى إلى مشاكلهم، إلى أشواقهم التى يضخمها الحصار والانقطاع عن الأهل، لكن لا يذكر أحد من الجنود أنه تحدث عن نفسه فيما عدا مرة واحدة فى أحد الليالى بعد إطراقة قصيرة تحدث إلى الضابط الذى كان يقاسمه النوم فى الملجأ عن أطفاله الثلاثة «منى وطارق وخالد»، وقال إنه رآهم قبل الحرب بثلاثة أيام لآخر مرة، وإنه قام بتغليف كراسات المدرسة لكل منهم وداعبهم، وقبل ذهابه فجر اليوم دخل إلى حجرتهم على أطراف أصابعه.. قبلهم ثم مضى.. بعد صلاة الظهر كل يوم يجلس إبراهيم إلى الجنود يشرح لهم بعض الآيات وأسباب نزولها ويرد على استفسارات الرجال، كان يطلب من المسيحيين قراءة الإنجيل باستمرار، وفى قلب الموقع خصص قطعة من الرمال استخدمها المسلمون مسجدًا واستخدمها المسيحيون كنيسة، من فوق نفس الرمال توجه كل منهم إلى الله، فى يوم الجمعة كان صوت إبراهيم يرتفع بخطبة الجمعة ويؤم المصلين، كما حرص على توفير جزء من الإمدادات قام بتوزيعه على المقاتلين صباح يوم العيد كترفيه، وفى ٧ يناير فوجئ المسيحيون فى الموقع به يوزع عليهم نفس الترفيه، وفى أحد الأيام وزع برتقالة على كل أربعة أفراد، وفضّل أفراد موقع الملاحظة المواجه للعدو ألا يأكلوا برتقالتهم، إنما أمسكها أحد الجنود وراح يرميها فى الفراغ ثم يتلقاها بيده مرات حتى يوحى لجنود العدو بوفرة الطعام فى الموقع.

كان يوجد راديو، جاء كهدية من قيادة الجيش الثالث مع أحد قوارب الإمدادات، كان وسيلة الإصغاء إلى العالم الخارجى، حرص إبراهيم على استخدام الراديو بحذر حرصًا على البطاريات، فلم يفتحه إلا لسماع نشرات الأخبار والقرآن الكريم، بعد صلاة العصر يبدأ إبراهيم فى المرور على الرجال مرة أخرى حتى ميعاد المغرب، بعد صلاة المغرب يبدأ الرجال فى تناول الوجبة الثانية والأخيرة، ثم يبدأ توزيع المقاتلين على خدماتهم الليلية، الساعة ٧.٤٥ مساء يصغى «الموقع» إلى القرآن المذاع من صوت العرب، الساعة الثامنة يصغون إلى الآذان المذاع من مصر ثم إلى نشرة الأخبار.

الساعة التاسعة يبدأ إبراهيم فى المرور على الخدمات الليلية مع الضباط ويستمر هذا المرور حتى الفجر، لم يكن إبراهيم وضباط الموقع يذوقون النوم إلّا لمدة قصيرة لا تتجاوز ثلاث ساعات على امتداد اليوم كله، كان إبراهيم يشعر بدوار بسبب قلة الأكل، كثيرًا ما أعطى طعامه للجنود الذين يرى إعياءهم باديًا، كان الحدث الذى يرفع الروح المعنوية لدى الموقع حدوث اتصال لاسلكى من قيادة الجيش الثالث، حرص اللواء أحمد بدوى على تجنيد جميع أجهزة الجيش لإمداد موقع كبريت.

وفى الجانب المقابل حرص إبراهيم على ألا يثقل على قيادة الجيش بالمطالب، ونظرة واحدة إلى سجل الاتصالات اللاسلكية الخاصة بتلك الفترة تثير التأثر الشديد مهما انقضت السنون، كانت قيادة الجيش الثالث تلح فى معرفة مطالب الموقع ويجيب إبراهيم عبدالتواب: طمنونا أنتم عن أحوالكم.. نحن بخير ويمكننا أن نتصرف.

كان إبراهيم عبدالتواب روح موقع كبريت، لا يزرع الصمود فى النفوس فقط إنما يزرع الحب ويعمق الإنسانية بين الرجال، كان متواجدًا فى حياة كل إنسان بالموقع، لا يطلب أداء عمل صعب إلا ويكون هو أول من يقوم به مهما كانت نوعية هذا العمل، واستمر جهده الفذ متصلًا منذ بداية الحصار ولمدة ١٣٤ يومًا كاملًا، وفى يوم ١٤ يناير ١٩٧٤ قام العدو الإسرائيلى بتحريك بعض عرباته المدرعة فى مواجهة الموقع، وأمر إبراهيم عبدالتواب بإطلاق النيران.

أصيبت عربة معادية إصابة مباشرة، جن العدو وبدأ يفتح جميع نيرانه على الموقع، وكالعادة كان إبراهيم فى الموقع المتقدم يوجّه المدفعية عند الحد الأمامى، وكانت الساعة العاشرة صباحًا إلا عشر دقائق عندما اتخذت دانة مدفع هاون عيار ٨١ مللى طريقها إلى تلك النقطة المتقدمة.

برقية من قيادة الجيش الثالث إلى موقع كبريت «من هيئة عمليات القوات المسلحة إلى المقاتل سعد الدسوقى قائد موقع كبريت شرق، جميع القوات المسلحة تقدر فيكم روح البطولة والفداء وتحيى روح الشهيد عبدالتواب، أملنا وثقتنا كبيرة فى صمودكم وثباتكم تحيتنا لجميع رجالكم إلى الإمام على طريق النصر».

تعاهد الرجال على الصمود، قال كل منهم للآخر، هكذا أراد الشهيد العظيم ولا بد أن نحقق له ما أراد، وكما أراد قاموا بدفنه على مستوى الأرض، احتضنه الرائد محمد سعد الدسوقى الذى خلفه فى قيادة الموقع، مددوه داخل الأرض التى كانت بالنسبة له شرف مصر.

وكانت الدانة التى استقرت إحدى شظاياها داخل جسد الشهيد العظيم آخر دانة تطلق على الموقع، فقد انسحب العدو بعد أيام تنفيذًا لاتفاقية فصل القوات، وبقى موقع كبريت إلى الأبد رمزًا للشرف والصمود.